كتَـــــاب الموقع

ليبي في مُواجهة (كوان لي) بـ”كامبريدج”

الحسين المسوري

بكثير من المتعة؛ أنهيت قراءة مذكرات الخبير الزراعي الليبي، محمد صدقي، ومُمثّل ليبيا الأسبق في منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة “فاو”، وصاحب فكرة تأسيس مركز البحوث الزراعية الليبي؛ التي جاءت في كتاب تحت اسم “عصير العمر” الصادر عن مؤسسة “ميادين” للنشر.

من أهم الملاحظات التي دوّنها الدكتور محمد صدقي، ما حدث خلال دراسته للدكتوراه في جامعة “كامبريدج” العريقة، حيث التقى، في إحدى المرات، صدفةً شخصًا ذا ملامح صينية، وسأله: من أي بلد أنت وماذا تدرس؟ فأجاب الدكتور صدقي: (أنا من ليبيا وأدرس فسيولوجيا النبات)، وأضاف الرجل ذو الملامح الصينية أسئلته وقال: كيف تم اختيارك للدراسة في الخارج؟ وعلى أي أساس تم اختيار موضوع دراستك؟ وهل دراستك مرتبطة بمخطط يحدد احتياج بلدك؟

يقول الخبير محمد صدقي إن (الأسئلة استفزتني ربما لأنها كانت في الصميم ولم أكن أملك أجوبة عليها، لذلك ودعني الرجل بلطف وتمنى لي التوفيق في دراستي). المُفاجأة أن هذا الرجل ذا الملامح الصينية كان الدكتور كوان لي يو، رئيس وزراء سنغافورة وباني نهضتها الحديثة، الذي تلقى تعليمه الجامعي في بريطانيا بجامعة كامبريدج.

لقد كان الطالب الليبي محمد صدقي في مواجهة (كوان لي)، وما يُهمّنا من تلك المواجهة هي الأسئلة المُهمّة التي طرحها، كوان لي، والتي توضح كيف يفكر رجل الدولة المستنير الذي تسلم بلدًا استقل حديثًا عن ماليزيا، يٌعاني سكانه البطالة المرتفعة وفقر الموارد والثروات الطبيعية وانتقل به إلى مصافّ الدول الحديثة، ومن هذه الأسئلة التي طرحها كوان لي، على محمد صدقي، تعرف كيف استطاع رئيس الوزراء السنغافوري النجاح في تغيير بلاده إلى الأفضل.

كما يروي الدكتور محمد صدقي، في مذكراته، كيف حاولت حكومات المملكة الليبية إبعاد الشباب الليبي عن الأيديولوجيات السائدة في تلك الفترة، التي تسبّبت في دمار دول المنطقة، وذلك بإرسالهم لأرقى جامعات العالم لتحضير درجتيْ الماجستير والدكتوراه والدورات التدريبية في مختلف المجالات، ليعرفوا الفرق بين الشعارات التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، والطريق الحقيقي لتحقيق النهضة عبر العلم والمعرفة، ومن المفارقة أن هذه الدول التي تبنّت هذه الأيديولوجيات، تخلّت عنها وأصبحت أقرب إلى سياسة المملكة الليبية، بعد 20 سنة فقط من تبنّيها؛ ممّا يُعبّر عن الرؤية المستقبلية الثاقبة لحكومات المملكة الليبية.

مذكرات السيد محمد صدقي، فيها الكثير من المتعة، حيث رسم لنا صُورًا عن الحياة في مدينة درنة خلال الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، وستعرف كيف كان المجتمع الليبي “فسيفساء” تجمع المختلف دينيًا وعرقيًا ولغويًا في حي واحد، والعلاقة بينهم طبيعية، ولن تجد المبالغة في الوصف أو تقديم المجتمع بصورة مثالية، التي تعارفنا عليها في كثير من كتابات معاصري المراحل التاريخية؛ فالدكتور محمد صدقي قدّم لنا المجتمع بكل بساطة ومصداقية وواقعية، فلا هم ملائكة معصومون ولا هم شياطين ملعونون، بل مجتمعٌ بشريٌ فيه كل شيء، وإن غلبت عليه البساطة، مجتمعٌ يعيشُ الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، التي تسبّبت بكارثة إنسانية للكاتب شخصيًا، بعد أن فقد والديْه وشقيقه، جرّاء غارة جوية.

كما أعجبني أن السيد صدقي، ذكر بكل أمانة ومصداقية مواقفه من الأحداث والتغييرات السياسية، وفق وقت حدوثها وليس وفق ما آلت إليه الأوضاع أو تسبّبت به تلك الأحداث، سواءً كانت سلبية أو إيجابية، ممّا يضعك أمام شخص موضوعي وصادق. كما خص الدكتور صدقي، قصة زواجه بمقارنة رائعة ومفيدة بين الثقافات، حيث هو الرجل الشرقي وزوجته الإنجليزية التي تنتمي للثقافة الغربية، والتي تعرّف عليها خلال دراسته بجامعة “كامبريدج”، وكيف كانت النظرة مُختلفة بينهما لكثير من الأمور، وكيف أمكنهما التوفيق في مسيرتهما العائلية رغم الفوارق الثقافية والعادات والتقاليد.

أعتقد أن مذكرات الخبير الزراعي الليبي، محمد صدقي، فيها الكثير من الدروس والعبر، فهي ليست مجرد سيرة لشخص، بقدر ما هي توثيق لبعض المراحل المُهمّة والصعبة التي مرّت بها ليبيا والعالم، بحكم ظروف نشأته ومراحل تعليمه، وحتى تكليفه بمهام ومسؤوليات ومناصب مختلفة، بمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى