كتَـــــاب الموقع

علمانية الدولة في ليبيا ترف فكري أم ضرورة حتمية؟!

الحسين المسوري

يستمر الجدل في مجتمعنا حول علمانية الدولة بين مؤيد ورافض، فهناك من يرى أنها ضرورة حتمية وآخر يعتبرها ترفا فكريا فلا حاجة لعلمانية الدولة الليبية باعتبار أن المجتمع الليبي هو مجتمع مسلم سني في أغلبه، ورغم أن هذا الجدل أو السجال قديم في مجتمعنا ولو على نطاق ضيق لكنه ظل بعيدا عن النقاشات الحقيقية والطرح الجدي، ومجرد نقاش بين أفراد ينتهي بانتهاء جلسة اللقاء بينهم سواء في مقهى أو مناسبة ثقافية أو اجتماعية ولم يطرح بشكل مؤسساتي حتى الآن، صحيح أن نقاش هذا الأمر يتجدد من حين لآخر عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، لكنه لا يزال حبيسها، رغم أنه في السنوات الأخيرة أصبح مناقشة هذا الأمر بشكل مؤسساتي مطلبا أكثر جدية وواقعية نتيجة الأحداث التي تعيشها بلادنا منذ 10 سنوات.

أذكر في بداية الألفية كنا مجموعة من الأصدقاء نناقش (هل أن علمانية الدولة ترف في الدول العربية؟) باعتبار أن المجتمع في أغلبه مسلم، وأن المنتمين للأديان الأخرى خاصة المسيحية تمارس طقوسها بشكل طبيعي في تلك الدول، ومع سقوط نظام البعث في العراق ومن بعده اندلاع (ثورات الربيع العربي) وصعود تيار الإسلام السياسي بمختلف تصنيفاته دخلت المجتمعات في دوامة عنف دموية وصراعات وحروب تغذيها فتاوى دينية استخدمت (التكفير) كمبرر لتصفية الخصوم السياسيين وتنفير المواطنين عنهم وتغييبهم عن المشهد السياسي عبر حملات ممنهجة استخدمت فيها منابر المساجد، والتي ساهمت في اغتيال المنافسين سواء معنويا أو حتى جسديا.

لقد كنا نعتقد أن علمانية الدولة قد يفرضها الواقع في الدول العربية، ولكنها في ليبيا مجرد ترف فكري لا حاجة ضرورية له باعتبار، كما أسلفت، أن المجتمع الليبي في غالبه مسلم سني ولكن ما شهدناه منذ 2011 فإن الواقع الليبي يقول إن علمانية الدولة أصبحت حلا ضروريا لترسيخ السلم الأهلي في المجتمع الليبي، فقد أثبتت تيارات الإسلام السياسي أنها لا تكتفي بإقصاء خصومها من التيار المدني فقط، بل هي في حالة صراع مع بعضها، وأنها (تكفر) و(تهدر دماء منافسيها) كما يحدث بين (جماعة الإخوان) و(الجماعة المقاتلة) و(التيارات السلفية المختلفة) المتحالفة مع أطراف الصراع التي استخدمت الدين لتبرير حروبها السياسية وتحشيد المقاتلين والأنصار، كما أن علمانية الدولة اليوم نحتاجها لحقن دماء الليبيين وحفظ الأنفس والممتلكات من خلال واقع نعيشه، فالسلفي يكفر الأباضي، ولا ننسى التهديد والوعيد والخطف والاغتيالات التي تعرض لها مريدو الطرق الصوفية في مختلف مناطق ليبيا خلال العقد الأخير.

كما أن الأمر في ليبيا لم يقف عند الأطراف السياسية بل وصل الأمر إلى الهيئات الدينية الليبية، مثل الفتوى التي أطلقها رئيس دار الإفتاء الشيخ الصادق الغرياني بـ(الجهاد في بنغازي)، أو الفتوى التي أصدرتها اللجنة العليا للإفتاء واعتبرت فيها الأباضية (فرقة منحرفة وضالة من الباطنية الخوارج)، فهذه الفتاوى في الحقيقة استهدفت الشعب الليبي بمختلف مكوناته، وتعتبر تهديدا للسلم الأهلي في ليبيا.

وعلى ذكر المذهب الأباضي فإنه في الشهر الماضي أعلن في جبل نفوسة عن تأسيس (المجلس الأعلى للإباضية)، والذي قال رئيسه الشيخ محمد سالم العزابي في كلمته إن (رسالة المجلس السعي لضمان الأمن الروحي وحراسة الثوابت الدينية، وبيان الفكر الأباضي وهو الإسلام المتسامح).

وبهذا الإعلان يكون لدينا في ليبيا ثلاث هيئات دينية هي (دار الإفتاء) و(اللجنة العليا للإفتاء) و(المجلس الأعلى للإباضية)، وهي شئنا أم أبينا تمثل تيارات دينية وحتى عرقية وتدعم أطرافا سياسية مختلفة، وبالتالي فإن قضية علمانية الدولة في ليبيا لم تعد ترفًا فكريًا، فالعلمانية تشكل حلا لمجموعة من الأزمات السياسية والاجتماعية والدينية والعرقية والثقافية والهوياتية التي تهدد وحدة المجتمعات والدول ومن الخطير انحياز الدولة لمذهب أو تيار معين لأنه يهدد بانقسامها إلى دويلات متناحرة، كما حصل في محطات تاريخية ماضية.

فعلمانية الدولة أصبحت ضرورة ملحة لأن مؤسسات الدولة مهمتها تقديم الخدمات الإدارية والمعيشية لجميع مواطنيها بالتساوي والعدل ودون تمييز بينهم بسبب الانتماء السياسي أو العرقي أو الديني، فوظيفة مؤسسات الدولة هي مثل وظيفة المستشفى، فلا يمكن للطبيب أو الممرض أن يمنع المريض من الدخول إلى المستشفى والحصول على العلاج لأنه من المذهب المالكي أو الأباضي أو من التيار السلفي أو من مريدي الطرق الصوفية.

كما أن مدير المستشفى لا يمكنه تعيين مهندس مسلم كطبيب جراحة لأنه مالكي أو أباضي أو تعيين فني كهرباء كممرض لأنه سلفي أو صوفي، بل سيقوم بتعيين شخص لديه شهادة علمية في التخصص الطبي الذي يحتاجه المستشفى، وإدارة المستشفى عندما تريد تقييم عمل طبيب أو ممرض فإنها ستقيم الأداء وفق المعايير الفنية والمهارة والمعرفة والالتزام بالمواعيد وليس كونه مالكيا أو أباضيا أو سلفيا أو صوفيا.

أخيرًا حتى على المستوى الشخصي لو احتاج والدك أو أمك أو أي أحد من أفراد أسرتك لإجراء عملية جراحية وأمامك طبيبان، الأول معروف أنه جراح ماهر وشاطر وحالات نجاح العمليات التي أجراها كثيرة، والثاني معروف أنه قدراته متوسطة ولا يملك مهارة كبيرة وحالات الفشل كثيرة فمن ستختار؟!، هل عند اختيارك للطبيب الذي سيجري العملية سيهمك أن يكون الطبيب مالكيا أم أباضيا أو سلفيا أم صوفيا؟! أو أنه سيهمك أن يكون ماهرا في عمله؟! أعتقد أن الإجابة ستكون متفقة مع ما جاء في الحديث الشريف للرسول محمد صل الله عليه وسلم (أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى