مقالات مختارة

لماذا تراجع جونسون عن موقفه الصحيح من كورونا؟

علي قاسم

برهن رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، في أكثر من مناسبة، على أنه سياسي جريء، وبرهن أكثر أن رجل السياسة لا يمكن أن يتبنى دائما الموقف الذي يعتقد بصحته، فهو في النهاية سيرضخ ويشرب من “نهر الجنون”، الذي شرب منه الجميع.

قبل الحديث عن السبب، وهو وباء كورونا، دعونا نتحدث عن الوباء نفسه. ماذا بعد أن تفشى الوباء وتحوّل إلى تسونامي جارف، كما يطلق عليه الإيطاليون، هل ستنفع الإجراءات الصارمة التي انتهجتها الحكومات في وقف انتشاره.

معظمنا يميل إلى التفاؤل، بعض منا متفائل، لأننا نعتقد أن الله لن يتخلى عنا في تلك المحنة، وبعضنا متفائل لأننا نثق بالعلم، ونتوقع أخبارا تخرج إلينا في أي لحظة بعلاج أو لقاح يوقف الفايروس.

هناك من يبني تفاؤله على التجربة الصينية والكورية، حيث شهدت الإصابات بالفايروس انحسارا معمما، ولاحت في الأفق عودة إلى الأوضاع الطبيعية.

ورأينا أن الديناميكية جرت على مرحلة شهرين إلى ثلاثة أشهر مع تسجيل انعكاس في الذروة إثر تدابير بالغة الشدة بين الشهرين الأول والثاني.

وهو الكلام الذي أكدته المديرة العامة لوكالة “الصحة العامة” الفرنسية، جنفياف شين، ورغم ذلك قالت بأن “الوقت ما زال مبكرا جدا لتأكيد أي أمر كان حول ديناميكية الوباء”.

وبناء على ذلك، تقول جنفياف، من المتوقع أن تشهد فرنسا انحسارا للوباء في مايو.

أصحاب هذا الرأي يؤكدون أن موجة المدّ في الصين قد عبرت، إذ لم يسجل البلد السبت سوى إصابة محلية واحدة بفايروس كورونا المستجد، بعد ثلاثة أيام من عدم تسجيل أي حالة محلية.

لكن لاختصاصي علم الأوبئة والصحة العامة رأي آخر، وهم يخشون أن يكون هذا الهدوء الذي تشهده الصين، بمثابة الهدوء الذي يسبق العاصفة.

الاختصاصي في علم الأوبئة، أنطوان فلاهو، كتب في مجلة “ذي لانسيت” الطبية البريطانية متسائلا “هل يعقل أن تكون الصين قد شهدت مجرّد موجة منذرة (…) وأن تكون الموجة الكبرى قادمة؟”.

ويقول فلاهو إن فهم تعقيدات مسار انتشار الأوبئة، يتطلب العودة إلى المرحلة التي تلت مباشرة الحرب العالمية الأولى، عندما اجتاحت الأنفلونزا “الإسبانية” العالم على ثلاث موجات، متسببة بمجزرة فاقت ويلات المعارك، إذ أودت بحوالي خمسين مليون شخص، قبل أن تزول.

السؤال الذي يستحق أن يطرح كما يؤكد الأخصائيون هو: ما الذي جعل الأنفلونزا الاسبانية تتبدد؟

هذا السؤال تصدى له علماء الرياضيات، ومن أبرزهم الاسكتلنديان، ويليام أوجيلفي كيرماك، وأندرسون غراي ماكندريك، اللذان يعملان على وضع نماذج رياضية تسمح بفهم تطور الوباء.

وحسب العالمين فإن أي وباء لا يزول “بزوال المقاتلين”، أي أن “العامل المعدي” لا يزول في نهاية المطاف مع المرضى الذين يقضي عليهم، بل باكتساب الناس مناعة جماعية تعرف بـ”مناعة القطيع”.

والمقصود بالمناعة الجماعية هنا “نسبة الأشخاص المحصنين ضد الفايروس (سواء بالحقن أو التلقيح حين يكون اللقاح متوافرا) الواجب الوصول إليها لإزالة أي خطر بعودة الوباء إلى الظهور”.

ووفقا لفلاهو، تتوقف هذه النسبة على سهولة انتقال الفايروس من شخص مصاب إلى شخص سليم. أي، كلما كان المرض معديا، ارتفعت نسبة الأشخاص المحصنين ضده الواجب بلوغها لوقف انتشاره.

ووفق حساباته “ينبغي أن يُصاب ما بين 50 و66 في المئة من الناس بالفايروس، وأن يكتسبوا مناعة ضده حتى يزول الوباء على مستوى العالم”.

التدابير الصحية المتخذة من حجر صحي وإقامة حواجز وحجر منزلي، إضافة إلى عوامل الطقس. توقف انتشار الفايروس ولكنها لا تضعفه أو تقلل من خطره.

عندما يتدنى مستوى انتقال العدوى عن درجة 1، ما يعني أن كل مريض ينقل العدوى إلى أقل من شخص، “عندها فقط يتوقف الوباء” هذا ما قاله فلاهو، ويشاطره الرأي خبراء الأوبئة.

فالوباء، والكلام لا يزال لفلاهو “لا يتبدد بالضرورة، خصوصا إذا كانت نسبة المحصّنين ضدّه لم تتخط 50 إلى 66 في المئة؛ قد يمر بمرحلة توقف، وهذا ما يحصل حاليا في الصين كما في كوريا”.

وأوضح الخبير الفرنسي أن العوامل الصحية أو الجوية التي تكبح العدوى “مرحلية، وما أن تتلاشي، ينطلق الوباء من جديد حتى بلوغ مستوى المناعة الجماعية المذكورة” مشيرا إلى أن الأمر يستغرق “أحيانا عدة أشهر أو عدة سنوات”.

بالطبع سيتبدل الوضع بشكل جذري إذا تمكنت شركات الأدوية الكبرى من التوصل إلى لقاح ضد كوفيد-19 يوزع في العالم خلال مهلة 12 إلى 18 شهرا. وهذا ما يأمله الجميع.

دعونا نتذكر كلام المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، منذ أسبوعين، عندما قالت، إن ما بين 60 إلى 70 في المئة من الألمان سيصابون بفايروس كورونا المستجد؛ وهي النسبة التي قال علماء الرياضيات إن إصابات الفايروس ستصلها ليكتسب الناس مناعة توقف الوباء.

جاء ذلك في كلمة لها حول تفشي الفايروس، خلال اجتماع للكتلة البرلمانية لحزبي “المسيحي الديمقراطي” و”الاتحاد الاجتماعي المسيحي”. وأشارت ميركل حينها إلى أن كفاح ألمانيا ضد كورونا سيستغرق وقتًا طويلاً.

بوريس جونسون أكد، في بداية مارس، أن الجيش البريطاني مستعد للتدخل، ولكن ضمن أسوأ سيناريو، في حال تفشي الفايروس بشكل كبير، وأثار غضب البعض عندما نصح بتجنب اتخاذ تدابير مسبقة، لأن آثارها سوف تكون غير مجدية، والأهم في الوقت الحالي التعامل مع الحالات المصابة وتوفير الرعاية الصحية.

ورغم أن موقف جونسون قوي، من الناحية العلمية، ويستند إلى إرشادات مستشارين علميين؛ فهو يقترح حماية كبار السن والأكثر عرضة للوفاة من البشر، بينما الأقوياء يمكنهم بمناعتهم الذاتية التغلب على الفايروس، إلا أنه فضل التراجع، شاربا من “نهر الجنون”، وقرر إغلاق الحانات والمطاعم والمسارح ودور السينما وصالات الألعاب الرياضية لإبطاء الانتشار المتسارع للمرض؛ عاملا بنصيحة الأوروبيين.

وحسب صحيفة ليبراسيون الفرنسية، فإن قرار جونسون جاء بعد أن وجه له الزعيم الفرنسي إنذارا صباح الجمعة، مهددا بفرض حظر على دخول أي مسافر قادم من بريطانيا في حال لم تتخذ الحكومة البريطانية إجراءات جديدة.

في النهاية، لن يقضى على الفايروس إلا باكتساب البشر مناعة طبيعية ضده، أو مع توصل العلماء إلى لقاح فعال يوقف انتشاره. كل الخطوات، في ظل غياب اللقاح، لن تفيد إلا في تعميق الأزمة وإطالتها.

المصدر
العرب
زر الذهاب إلى الأعلى