مقالات مختارة

بناء الدولة فى ليبيا وتحديات الصراع ما بعد القذافي

يوسف محمد الصواني

نشر فى : الإثنين 23 نوفمبر 2020 – 9:25 م | آخر تحديث : الإثنين 23 نوفمبر 2020 – 9:25 م
تتوارد الأخبار عن بعض النجاح الذى حققته أحدث جولات الحوار السياسى الليبى التى عقدت مؤخرا تحت إشراف بعثة الأمم المتحدة للدعم فى إحدى ضواحى العاصمة التونسية، وهى أخبار ستبقى فى دائرة الاحتمالات وسيتحدد مصير الحوار السياسى الليبى إذا ما تمكن المجتمعون، الذين سيتداولون شروط الترشح للوظائف السيادية بمن فيها رئيس المجلس الرئاسى ورئيس الوزراء، تحقيق خطوة أخرى نحو اتفاق أشمل. ورغم ما تثيره تلك الأخبار من إيجابية وما تزرعه من أمل فى أن الأزمة الليبية ربما تجاوزت خطر الحرب، فإن تحقيق السلام والأمن والمصالحة وبناء الدولة الجديدة يبقى رهين عوامل متعددة ومتصارعة علاوة على ما للتدخل الأجنبى من دور لا يبدو أن وساطة الأمم المتحدة ستنجح فى إبطال مفعوله السلبى.
إن فهم حقيقة ما جرى ويجرى فى ليبيا منذ 2011 لا يمكن أن يتحقق بدون الإلمام بعناصر المشهد المركب الداخلية والخارجية. لقد أكدت ترتيبات تقاسم السلطة برعاية الأمم المتحدة والتى أنتجتها اتفاقية الصخيرات الموقعة فى 17 ديسمبر 2015 عدم قدرة الهيئات المختلفة على اكتساب الشرعية والقدرة على العمل مع الميليشيات المسلحة التى تمثل السلطة الحقيقية.
***
تغرق البلاد فى فوضى عارمة ويعانى السكن الحرمان من أبسط الخدمات بما يجعلهم ينكصون عن فكرة الثورة والتغيير، ونجد قطاعات عريضة تستعيد ذكريات الاستقرار أيام القذافى فيما يتوارى حلم بناء الدولة الجديدة الديمقراطية ليصبح بعيد المنال. يخشى الليبيون اليوم أيضا على بقاء بلادهم موحدة بينما استنفذ الصراع وفساد النخب الحاكمة منذ 2011 القسم الأعظم من الموارد. أدت الانتفاضة وما ترتب عنها إلى ضعف متزايد أو فشل الدولة ومؤسساتها مع زيادة عدد الميليشيات المسلحة واُختطفت المؤسسات وتم تسخيرها للمصالح الحزبية أو القبلية والجهوية، وبالتالى خلق المزيد من الدوافع للصراع.
ومع سيطرة الميليشيات وزيادة الصراع أصبح الاقتصاد أيضا تحت هيمنة الميليشيات بينما يعانى المواطنون شظف العيش وامتهان الكرامة من أجل الحصول على الحاجات الأساسية بما فى ذلك الحصول على الأوراق النقدية من حساباتهم بالمصارف. انتشر العنف وسادت الجريمة وأصبحت المؤسسات أداة فى الصراع ومعبرة عنه فى ذات الوقت، وهو ما أدى إلى تعميق الانقسام وترسيخ النزاع بدلا من التوفيق بين احتياجات ومطالب الأطراف الاجتماعية ومقتضيات الحاجة إلى بناء الدولة. بالمقابل تم بالفعل إنشاء العديد من المؤسسات الجديدة لخدمة مصالح فصائل معينة وجرى اختطاف المؤسسات المنشأة حديثًا وأى بقايا من المؤسسات القديمة وتسخيرها لمصالح حزبية وسياسية وقبلية وإقليمية، مما خلق المزيد من الحافز للصراع.
لا بد من القول إن أهم أسباب الأزمة فى ليبيا هو ذلك الاعتقاد الخاطئ بأن ما حدث فى 2011 كان مجرد انتفاضة فى مواجهة ديكتاتور عتيد وبعض المرتزقة! هذه السردية تتجاهل حقيقة كون نظام القذافى كان له مناصرون فى أجزاء كثيرة من البلاد وتتجاهل بقاء القسم الأعظم من السكان وكبريات القبائل محايدا خاصة بعد التدخل المباشر لقوات حلف الأطلسى. وبذلك فإن الدور الذى لعبه الليبيون المؤيدون للقذافى فى القتال عند انطلاقه فى 2011 يسمح بتصنيف ما جرى كحرب أهلية أكثر من كونها ثورة، كما لا يمكن فصله إلا تعسفيا عن المستقر فى قيم وثقافة الليبيين من رفض للتدخل الأجنبى. وبمراجعة لما يجرى فى هذا البلد المنكوب منذ 2011 يمكن القول إنه لو تمكنت النخبة الليبية من إدراك هذا لما انحدرت الأوضاع إلى ما صارت عليه اليوم ولكان ممكنا تركيز التفكير والعمل على تحقيق المصالحة الوطنية بما يساعد على بناء القاعدة المجتمعية الصلبة اللازمة لأى بناء ديمقراطى. المؤسف أن الذى حصل هو العكس تماما حيث تم تجاهل، أو رفض المصالحة فى عديد الحالات، بل واتخذت النخبة التى سيطرت عديد الخطوات وأصدرت تشريعات عمقت الانقسام والإقصاء والاستبعاد. كما تظهر الوقائع أن تلك النخب عرقلت السير فى طريق المصالحة الوطنية كما لم تسع لنزع سلاح الميليشيات، واختارت النخب أن يخوض الليبيون غمار انتخابات فى 2012 ثم فى عام 2014 قبل التوصل إلى اتفاق على رؤية موحدة للدولة أو عقد اجتماعى جديد، فحدث استقطاب اجتماعى وتمت التضحية بمقتضيات حل الصراع التى تقوم على مزيج من المصالحة الوطنية والانتعاش الاقتصادى وبناء الدولة مؤسساتيا.
ورغم سعيها المتواصل للتسوية فى ليبيا فلم تتمكن جهود الأمم المتحدة عبر بعثتها للدعم فى ليبيا من وقف الصراع وتحقيق الأمن والسلام، وعلاوة على اعتماده على مقاربة تقاسم السلطة التى أقصت قطاعات مهمة من السكان والفاعلين، فلم يؤدِ اتفاق الصخيرات إلا إلى المزيد من الصراع. رغم احتوائه على بنود ومضامين تتعلق بالمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية فلم يتم تنفيذ أى مما جاء فيه وخاصة «ترتيبات بناء الثقة» فالهيئة التى حددها الاتفاق لتكون معنية بالكشف عن الحقيقة والمصالحة لم يتم إنشاؤها أصلا. ويمكن القول إن كل ما جاء ضمن الاتفاق السياسى الليبى بشأن المصالحة بقى حبرا على ورق رغم وجود حكومة وفاق وطنى مزعوم انهار سريعا بمجرد أن قرر الجيش الوطنى الليبى المدعوم من البرلمان الشرعى خوض غمار حرب أهلية جديدة فى 2019 بينما كانت البعثة الأممية تعد لعقد ملتقى وطنى بهدف تسوية جديدة.
***
وعلاوة على الجوانب المتعلقة بإرث القذافى وكيف يمكن التعامل معه بما يضمن الاستقرار وعدم الاستبعاد، فإن الأزمة السياسية والاقتصادية السائدة تثير تحديين أساسيين إضافيين، فالجماعات التى تدعو إلى تبنى نموذج لا مركزى أو فدرالى تنتهز المرحلة الانتقالية الصراعية وتعتبرها اللحظة المواتية للمطالبة بذلك أمام ضعف السلطة المركزية وتشتت المؤسسات. بدا هذا واضحا فى معظم ما قامت به القوى الفدرالية ورموزها من مطالبات وخاصة فيما يتصل بهيئة صياغة الدستور والمسودة الدستورية التى أحالتها إلى البرلمان للاستفتاء عليها. وبصرف النظر عن تلك المطالب فالمسودة ليست سوى تعبير عن عملية صناعة دستورية صراعية وتبقى عمليا مجرد وجه آخر للصراع الدائر منذ 2011، بل تزيد من حدته خاصةً أن أعضاء الهيئة منقسمون حولها بينما ترفضها الجماعات الثقافية المختلفة علاوة على قطاعات عريضة من السكان الذين يجرى وصفهم بأنصار النظام السابق، وأيضا دُعاة عودة الملكية وأنصار دستور الاستقلال فى نسخته الفدرالية. صياغة الدستور ومصير المسودة تمثل التحدى الأساسى أمام السلام والاستقرار بما يعيق فرص صياغة عقد اجتماعى ليبى جديد يؤسس للدولة الليبية المأمولة. جوهر التحدى يكمن فى أن المسودة، وإن تضمنت ِإشارات مختلفة للمصالحة والعدالة الانتقالية، فإن تلك الإشارات لا تبدو مترابطة بما يشكل رؤية متماسكة ومتكاملة حيث تفتقر حتى لمجرد التعريف الواضح للمصالحة وما الذى تعنيه ولا تقدم إطارا لها يضمن تناسقها ويوفر الأرضية للتشريعات التى يمكن أو ينبغى إصدارها لاحقا. ورغم أن كل ما يرد بالمسودة عام وشكلانى للغاية، فإن ما ورد بالمسودة من تحريم انتهاك حقوق الإنسان، والكشف عن مصير المفقودين وضحايا الانتهاكات، يمثل خطوة متقدمة بعيدا عن التسييس والتشرذم الذى تبنته التشريعات السابقة.
***
لكى تنجح العملية السياسية التى تقودها الأمم المتحدة فتسهم فى الاستقرار والمصالحة لا ينبغى السير بها قدما فى ذات الاتجاه الذى يتجاهل هذه المطالب والتحديات التى تعبر عن قطاعات مهمة من السكان أو تتصل باشتراطات حل الصراع وبناء السلام. هنا تبرز الحاجة مجددا إلى آلية صنع سلام شامل تنتج اتفاق سلام يعالج مصادر وأسباب الصراع بين مختلف الأطراف بما يؤسس لعملية صناعة دستور توافقية متحررة من العنف والإقصاء أو الاستبعاد وتقلل خطر الانحدار نحو المزيد من التشرذم والانقسام المجتمعى. إن تحديد العقبات التى تعوق تحقيق هدف بناء الدولة أولوية يجب ترجمتها ضمن اتفاقية سلام شاملة ليصبح ممكنا تكليف أى حكومة يتفق عليها بتنفيذ مقترحات واضحة لحل الأزمة والاستجابة للتحديات المتعددة التى تميز المرحلة التى تلى الصراع مباشرة، والإجابة على السؤال المركزى المتعلق باستعادة الاستقرار والأمن وإعادة تدوير عجلة الاقتصاد. يجب أن تستجيب مثل هذه المقترحات للتحديات الحقيقية وأن تكون مترابطة استراتيجيا أيضا بما يشكل برنامج إنقاذ وطنى تصالحى، وبما يستجيب لتطلعات الناس التى ينبغى أن تعبر عنها اتفاقية شاملة للسلام والمصالحة تراعى أيضا العلاقة بين المركز والأطراف وتستجيب لتطلعات السكان فى المشاركة فى إدارة شئونهم مباشرة وتقليص دائرة المركزية.
أمامنا الكثير من الترقب وأمام الشعب الليبى الكثير من الأمل فى تجاوز الأزمة والتهديد الذى يمس كل شىء، وليس من طريق للمرور نحو مستقبل أكثر استقرارا وأمنا ووحدة للكيان سوى المصالحة والتوافق والتمسك بالوحدة والديمقراطية ونبذ الإقصاء وتجاوز سرديات الانقسام، وهذا ما يطمح الليبيون للوصول إليه عبر الحوار ويلقى مسئولية تاريخية على المشاركين فيه الذين لا بد أن يرتقوا لمستوى التحدى وسؤال التاريخ وستبين الجولة القادمة من الحوار التى ستبدأ الأسبوع القادم إلى أى مدى يمكن للنخبة السياسية أن تنحاز لتلك الخيارات مثلما على بعثة الأمم المتحدة للدعم والمجتمع الدولى وخاصة الأشقاء العرب أن يدعموا السلم والأمن والمصالحة والديمقراطية بعد أن أنهكت تدخلاتهم البلاد والعباد منذ 2011 حتى اليوم.

المصدر
الشروق

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى