اخترنا لككتَـــــاب الموقع

حكايات عن التعليم والعنف المقدس

سالم العوكلي

في وادي لالي الذي كانت تجري بين مزارعه الصغيرة سواقي مياه عيونها العذبة، افتُتحت المدرسة الابتدائية الجديدة عام 1966ف ، وفيها كانت علاقتي الأولى مع قلم الرصاص الذي كان يرتعش في يدي من البرد والخوف. كانت الأبخرة تخرج من أفواهنا أمام لوح السبورة التي تضيئها الطباشير بحروف الأبجدية الأولى. أذكر جيداً مشهد طلاب فصلي وهم يرتعشون من أقدامهم حتى رؤوسهم حين دخلت سيدة بتنورتها القصيرة وحذائها ذي الكعب العالي وشعرها المرسل على كتفيها ، كانت السيدة فتحية عاشور مديرة التعليم بمحافظة درنة، لتعطي أوامرها للمعلم ومباشر المدرسة بأن يوقدا كانون النار في الفصل طيلة أيام الشتاء. وقتها كان مسؤولو التعليم والمفتشون دائمي الزيارة لفصل لا يتجاوز عدد الطلاب به العشرة رغم قلة المواصلات وصعوبة الطريق ، وكانت المدرسة تقدم لنا مجاناً كل شيء، الأقلام ، الكراسات ، الكتب، ووجبة الإفطار ، وما كان على أهلنا سوى أن يلبسونا ما أتيح من قماش، ويصنعون لنا حقائب من بقايا أكياس الطحين ، ويطلقون الأدعية بالتوفيق في إثرنا .

شكُل المعلم العنيف الذي يسلمنا لنزواته أهلنا، ويباركون ضربه لنا، أحد تجليات السلطة الأبوية التي لا يمكن التساؤل بشأنها أو الجدل حيالها، لكن دخول تلك المرأة الأنيقة والجميلة إلى فصلنا وملاحظة الخوف الذي أعترى المعلم الذكر شكل أيضا هشاشة هذه السلطة وتصدعها أمام عيوننا المندهشة . ارتبطت لدي تلك المرأة بالدفء، غير أن هذا الارتباط ليس جديدا، باعتبار أن الأم طالما انبثقت من أصابعها شرارة النار الأولى التي كانت تُقوّم أصابعنا المنكمشة بفعل البرد ، لكن الجديد أنها شكلت لنا إمكانية انهيار السلطة المطلقة للمعلم أمام الحنان حين يكون مرفودا بالمؤسسة والمسؤولية وحب المهنة.

في العام التالي انتقلت إلى مدرسة القيقب الابتدائية ، وكان المشهد هذه المرة مختلفا ، فالقلم ثبت بعض الشيء في يدي ، والزحام كان أكثر .. طلاب وطالبات ، فصول ممتلئة ، وأولاد أكثر جرأة وشقاوة ، ومعلمون كثر ، ومباشر المدرسة هذه المرة كان نحاتاً دقيقاً للعصي اللاذعة التي يصنعها من أغصان الزيتون ويهديها للمعلمين ، تلك العصي النحيلة التي كانت ترتفع وتهبط كل وقت على أيدي الطلاب ، وكم كنت استغرب ربط المعلم في الدرس بين الزيتون والسلام وهو يلوّح بغصن الزيتون اللاذع في يده. كان الضرب فضيلة التعليم وحكمته التربوية، ومن يشكو لأهله عليه أن يكون جاهزاً لعقاب آخر ، وسادية المعلمين الأوائل صارت محل إطراء حتى الآن ، وبذا كان الشق التربوي هو تدريبنا على الخنوع التام والخوف ، لنكن جاهزين للتلقين والحفظ والتسميع، وكان الحضن الاجتماعي للعنف داخل المدارس مقدمة لعنف سياسي وأيديولوجي سيجتاح فيما بعد كل مراحل التعليم، ويحول المدارس إلى ثكنات عسكرية، ليصل الأمر إلى شنق الطلاب في الميادين العامة وأفنية المؤسسات الجامعات.

في الصف الرابع كان أحد المعلمين لا ينفك يمرر سؤالاً بين الطلاب مع صفعة جاهزة لكل من لا يستطيع الإجابة ، صفع أربعة طلاب قبلي ، وعندما وصلني السؤال أجبت رغم أني من دقائق لم أكن أعرف الإجابة ، وأنا على يقين أن الذي ألهمني الإجابة هو الخوف وحده، فالأسئلة العنيفة كثيراً ما تكون إجاباتها الجاهزة أو الملهمة أكثر حضوراً، أما المعلم، صالح عبد الحميد، فكان صاحب أحب الحصص إلى قلوبنا ، حيث الفكاهة الحاضرة طريقته لشد الانتباه والسيطرة على الفصل ، وحكاياته الدائمة عن لذة الطعام في درنة، ونظمه لما استعصى علينا في أبيات شعرية عامية يسهل حفظها، وتحيل الحصة إلى كشك طلابي، مثل ( هبن شوري أرياح قبالي .. من النيجر وتشاد ومالي) التي نظمها فوراً بعد تكرار إخفاقنا في الإجابة عن سؤاله : من أين تهب رياح القبلي على ليبيا ؟ كما كان يستلهم أمثلته في النحو من نافذة الفصل فيحيل أي مشهد يراه إلى جملة لشرح الفعل والفاعل ، والجار والمجرور ، وربما هو من حببني في هذه المادة التي مازلت ألم بها رغم تخصصي العلمي.
كان تحويل المنهج الجامد إلى إيقاع شعري يسهل التغني به بداية دغدغة الشعر لمخيلتي ، وجذور غبطتي بكل ما يحيل الجامد إلى أغنية .

لم تكن مادتا النحو العربي والإملاء عند ذلك المعلم منفصلتين أو معزولتين عن باقي المواد، فكان يلاحق أخطاءنا الإملائية والنحوية ويشرحها في مواد الجغرافيا والتاريخ والعلوم وحتى في مسائل الحساب، وظل الخطأ النحوي أو الإملائي جرسا يدق في كل ما نقرأه ونكتبه.

شكل التعليم ومحو الأمية هاجس دولة الاستقلال الأساسي، للدرجة التي كانت المدارس تفتح أبوابها نهارا ومساء وليلا، لتعويض من فاته الحظ منه، بينما الجامعات كان يخطط لها لتكون مصنع قيادات الدولة المستقبلي، حيث كانت الدولة في بدايتها تعاني من قلة الكوادر المؤهلة.

ومع الانقلاب وبعد فترة قصيرة بدأ العمل الممنهج على تخريب قطاع التعليم والتربية، وإستراتيجيته التي ركز وصرف عليها المبالغ الضخمة، فألغي شق التربية من التعليم اسما ومضمونا، ثم بدا نظام الترحيل الذي ضرب بالتقويم عرض الحائط، ليصل الأمر إلى ذروته بتحويل المدارس الثانوية إلى ثكنات عسكرية وتحويل المعلم بعد تلقيه دورة في السلاح إلى ما سمي “المعلم الضابط”. كما تحولت الجامعات إلى معسكرات للتدريب العسكري، لها يوم سنوي تحتفل به، السابع من أبريل، الذي بدأ بشنق الطلاب في الميادين والجامعات لأنهم دافعوا عن استقلالية اتحاد الطلاب وعن الحرم الجامعي، ومن نجا من الشنق حكم عليه بالسجن المؤبد، وأصبح ذكرى سنوية لتطهير الجامعات من كل رأي مستقل، بل ومن كل طالب متفوق، ليكون الانتساب إلى المثابة هو المقوم الوحيد لمواصلة الدراسات العليا، ولتكتظ الجامعات فيما بعد بأعضاء هيئات تدريس اختيروا من قاع التصنيف الأكاديمي، إلا القلة التي درست على حسابها أو أوفدت قبل أن تكون المعايير الأكاديمية ثورية بحتة.
وهؤلاء الأساتذة المتفشون في رحاب الجامعات هم من كانوا يقفون دائما أمام أي برنامج يقترح لإصلاح الواقع الأكاديمي، لأن إجراءاته قد تلفظهم خارج مدرج المحاضرات، كان من بوادرها التظاهر ورفض تعيين كفاءة معروفة له رؤية في تطوير الجامعة كرئيس لجامعة بنغازي، بعد سقوط النظام، والمطالبة بانتخاب رئيس الجامعة، وهذا ما حدث في النهاية، وآخرها ما حدث الآن من رفض لقانون الجامعات الجديد الذي اعتمده مجلس النواب، والذي غايته إصلاح الحياة الأكاديمية وفق ما وصلت إليه جامعات العالم، وبعض الجامعات الإقليمية، من كفاءة جعلتها في واجهة التقييم السنوي للجامعات في العالم.
التعليم في ليبيا الآن في الحضيض، وفي المراحل جميعها نتيجة سياسة استمرت عقوداً، رأت في تجهيل الناس طريقة لنيل طقوس الطاعة والاستمرار في الحكم، وستستمر تداعيات هذا التخريب المتعمد لأن من يتصدرون مشهده هم من مخرجات تلك المرحلة وليس في صالحهم أي برنامج أو خطة للإصلاح أو لغربلة هذا القطاع من المتطفلين عليه .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى