كتَـــــاب الموقع

القوة بلا حدود .. لا “حدود” لها

سالم العوكلي

استجابة للربيع العربي الذي بدأ من تونس وانتقل إلى مصر ثم ليبيا واليمن، خرج مواطنون سوريون في عديد المدن السورية ملتحمين مع أهداف هذا الربيع الهادف إلى نهاية النظم المتحجرة التي جاءت عبر انقلابات عسكرية، ومحاولة حجز مقاعد ولو في الخلف في صالة النادي الديمقراطي والتمتع باستعراضاته الحقوقية، وحرص المتظاهرون السلميون في سوريا على أن تكون هذه الثورة شأناً محلياً، ولكن لم يمضِ شهر واحد على هذا الحراك حتى تحولت الأرض السورية إلى ملعب للقوى الدولية والإقليمية وساحة صراع للمحاور الدولية، وإرهاصاً لبداية حرب باردة اتسمت بالتنسيق بين القوات الأمريكية والروسية والإسرائيلية في الأجواء السورية حتى لا يحدث احتكاك، ثم لم تفتأ أن سخنت هذه الحرب فعلاً في أوكرانيا التي يحارب جيشها وميليشياتها بالوكالة حتى لا يحدث احتكاك بين القوتين الكبريين.

تقاطر على هذا الحراك السوري عشرات الآلاف من الإرهابيين الذين انتعشت خلاياهم النائمة من جديد، وكانت جميعها تمر بالأراضي التركية عبر عمل لوجستي هائل يشمل النقل والإقامة والتسليح قبل إيصالهم إلى قلب الثورة السورية، واكتظت هذه الثورة حين تسلحت كما حدث في ليبيا واليمن بميليشيات تتبع قوى إقليمية ودولية تتلقى أوامرها ودعمها منها، وبدا واضحاً أن حلفاً يشمل النظام السوري وإيران وروسيا ضد حلف آخر يشمل بقية القوى المتدخلة من الغرب ووكلائه الإقليميين.

أمريكا تحمي حلفاءها الأكراد، وتركيا تحمي حلفاءها الإسلاميين بما فيهم جماعات إرهابية والتركمان، وروسيا تحمي النظام الحليف ووحدة سوريا ومصالحها في هذا المكان المهم، وبعض دول المنطقة تحمي نفسها من انتقال عدوى الثورات إليها أو من نفوذ إيران في سوريا. والمفارق في تاريخٍ ولوع بالمفارقة أنه خلال الحرب الروسية الأوكرانية الآن، يفضي التحالف بين روسيا وسوريا كما يُعبّر عنه حالياً بأنه تحالف ضد الإرهاب والنازية، بينما التحالف المضاد يعبر عن نفسه بكونه يدافع عن الديمقراطية. وفي الحقيقة نرى بوضوح الإرهاب المتسكع في المنطقة ونرى الشعارات النازية تتسكع في أوكرانيا، ولكن نتلفت في كل اتجاه فلا نرى أثراً لديمقراطية بمفهوميها السياسي والأخلاقي.

تحدث الآن انقسامات في عديد الدول التابعة بين مؤيد لروسيا وبين مؤيد للناتو الذي يُضحي بأوكرانيا من أجل الترويج لأخلاقية الغرب في حربه، فمؤيدو النظام السوري يؤيدون روسيا، والمعارضون للنظام يتمنون تدمير روسيا التي وقفت مع النظام. سلطات طرابلس التي استعانت بتدخل تركيا العسكري، العضو في الناتو، والتي صرح رئيسها بأنه جاء لنصرة إخوته في ليبيا كما نصرهم في سوريا، تدين تدخل روسيا في أوكرانيا التي هي أيضاً تصرح أنها جاءت لتحمي مكوناً في أوكرانيا، بينما كانت روسيا تدعم الطرف الآخر في ليبيا الذي بدوره يؤيدها، وهذه الحروب الأهلية بالوكالة، سواء في سوريا أو ليبيا أو أوكرانيا، تخوضها في الواقع القوى العظمى عبر حلفائها، لكن اللعبة أكبر من هذه الاستقطابات الهشة حين يكون الصدام بين القوى الكبرى، والحال معنا مثل الأفيال التي تتصارع فوق وكر نمل. فمفهوم الحدود والسيادة والمصالح لهذه القوى يختلف تماماً عن مفهوم الدول الصغيرة له، والحدود بين هاتين القوتين فترة الحرب الباردة كانت تمتد على طول وعرض الكرة الأرضية، فالحدود بين الكوريتين هي في الواقع حدود بين هاتين القوتين، وأيضاً الحدود بين اليابان والصين، أو كوبا وجيرانها أو أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية، بل إن معركة الحدود انتقلت إلى الفضاء المتنازع عليه.

واستطاعت أمريكيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي أن تجتاح كل هذه الحدود دون رادع وانفردت بمناطق النفوذ في العالم، ليغدو خروج القوات الروسية كيلومتراً واحداً خارج حدودها حتى في إمبراطوريتها السابقة اعتداءً مداناً يخالف المواثيق الدولية، بينما لا أحد يدين احتلال الولايات المتحدة لدول تبعد عنها آلاف الأميال بذريعة الدفاع عن الأمن القومي وهو أمن ينطلق من كون الكرة الأرضية كلها حديقة أمريكيا الخلفية، ولا أحد استطاع أو يستطيع إدانة أي حرب تشعلها بريطانيا في جزر الفوكلاند البعيدة لأنها جزء من إمبراطوريتها السابقة.

الآن روسيا، وريثة الاتحاد السوفياتي ــ تعود من جديد لتأجيج الصراع حول هذه الحدود الكونية، والحديث في هذه الحالة عن غزو أو احتلال دولة أخرى تحت أي ذريعة باعتباره عدواناً أو يخالف القانون حديث لا يُسمن ولا يغني، ولا ينطبق على مثل هذه الصراعات. لذلك فالحرب التي تدور في أوكرانيا ويدفع ثمنها الأوكرانيون الأبرياء، في حقيقتها حرب تُستأنف بين هذه المعسكرات الكبرى والتي كانت فترة الحرب الباردة تجري كل مرة فوق أرض. أما الحديث عن الدفاع عن الديمقراطية ونشر الحريات فما هو إلا محاولة بائسة لتجميل الحروب على غرار ما تفعله سينما البنتاغون، ولتبرير العقوبات التي نتيجتها الوحيدة تجويع الشعوب.

ثمة الآن فاشية عالمية تنمو في ثياب مبهرجة يشي بها تصاعد شعبية الأحزاب اليمينية الراديكالية وتقدمها في انتخابات الدول الغربية بشكل مطرد، ويُعبّر عنها المفكر د. أندري فوسيف بما مفاده، الفاشية العالمية تحالف بدأ في تسعينيات القرن الماضي بين العولمة والليبرالية، اعتمد خلال العقود الماضية على الاقتصاد كركيزة، لكنه فشل في الهيمنة المطلقة، بل هيّج التنين الصيني ونموراً أخرى أصبحت منافسة بقوة، لذلك يبدأ التوجه الآن إلى نوع من العولمة العسكرية، على النحو الذي سعى له الرئيس السابق رونالد ريجان عبر برنامجه الذي سماه “حرب النجوم” لكن تكلفته العالية وما واجهه من صعوبات تقنية أدى إلى تأجيله، وهي الحرب التي تجعل غرفة في البنتاجون قادرة على حرق أي مكان أو شخص في العالم عبر حزمة ليزرية، ومع عودة هذه الرغبة المحمومة تقف روسيا عائقاً أمامها بما تملكه من قوة عسكرية ونووية تنامت بشكل كبير في العقدين الماضيين، ما يجعلها تشكل عثرة أمام تمدد نفوذ الناتو عبر العالم كأداة للعولمة العسكرية المقترحة، واستدراج روسيا إلى حرب في أوكرانيا، واتباعها بعقوبات لا مثيل لها في التاريخ، محاولة لتدمير هذه العثرة بعد أن تأكد أن لا إمكانية لهيمنة اقتصادية إلا بهيمنة عسكرية مطلقة، وبتكريس قطب واحد يشكل مركز هذه الهيمنة.

*******

ما أود قوله: على خارجيتنا وحكومتنا أن تصمت حيال هذا الصراع الأكبر منا بدل تصريحاتها المضحكة، لأن لا وزن لنا إطلاقاً في هذا النطاح العولمي، أو كما يذكر د. علي عتيقة في كتاب مذكراته، أن السيد وهبي البوري قال له حين عُينتُ رئيساً للبعثة الليبية في الأمم المتحدة، ذهبتُ إلى الملك إدريس لأستفسر منه عن خطوط سياستنا الخارجية الرئيسة، فقال له أربع نقاط، اثنان تخص السياسة العربية، وتتمثل في أن لا نتدخل في أي خصومات عربية لأننا ننال (القريضة) دون أن نغير شيئاً، وإذا وصل الأمر إلى التصويت في الجامعة العربية على ليبيا أن تكون مع الطرف الذي فيه مصر. أما النقاط الدولية فتتمثل في أن شن الحروب وقضايا النووي مسائل تهم الدول الكبرى. وعلى كل دولة أن تتحدث حسب حجمها.

ولو أن ليبيا سارت على خط هذه الاستراتيجية طيلة العقود السابقة، لكان لها شأن آخر فيما يخص التنمية والنمو الاقتصادي والرفاه والعلاقات الجيدة مع القريب والبعيد، لكن ما حصل طيلة عقود النظام السابق أنه تدخل في كل الصراعات في العالم، وجعل ليبيا منبعاً للشرور والإرهاب، وما حدث في هذا العقد الأخير لا يعدو كونه تصفية حساب، ندفع ثمنه، من قِبَل دول وقوى كم صدّر لها النظام السابق من إزعاجات وقلاقل. وكما تدين تُدان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى