كتَـــــاب الموقع

“اغتيال على طريق الحرية .. نضال التيار المدني …4”

عبدالله الغرياني

بعد انتهاء الأيام المفصلية في تاريخ الثورة والتي انتهت بسقوط كتيبة الفضيل أبوعمر وكافة المدن والقرى في الشرق الليبي لصالح الثورة، بدأت ملامح الخوف على مصير الثورة تتضح بعد خطابات وكلمات معمر القذافي ونجله سيف الإسلام التي لم تخلو من الوعيد بالدمار والزحف المليوني لتطهير المدن والقرى من سكانها الذين ثاروا لأجل حريتهم، وتحولت الثورة الشعبية لمسارين مسار حافظ على سلمية الاحتجاجات ومسار آخر مسلح للتصدي لسلاح القذافي الذي وجهه باتجاه شعبه، وفي المسار السلمي نضج تيار وطني ناضل لأجل انتصار الثورة وتحقيق أهدافها، وبعد الأسابيع المفصلية قبل 19 مارس التاريخ الذي تراجعت فيه القوات الموالية للقذافي عن اقتحام مدينة بنغازي، كان المشهد في محكمة شمال بنغازي وطنيًا بامتياز الجموع من سكان المدينة ومن خارجها يتوافدون لساحة محكمة شمال بنغازي مؤكدين على ضرورة رحيل القذافي مع موجة من الاستقالات والانشقاقات عن النظام أعلنوا عنها عدد من أمناء اللجان الشعبية “الوزراء” والسفراء في الخارج والمسؤولين المحليين واستقبلت هذه المواقف من عموم الشعب بالترحيب.

وفي ساحة المحكمة لعبت التجمعات المدنية دور بارز في تنظيم الوقفات والتظاهرات وبدأت تتأسس المؤسسات المدنية في هيئات وجمعيات خيرية وثقافية وتوعوية واُنشئت عدد من الصحف الورقية ومركز اعلامي للثورة رافقتها خطوات ومبادرات مدنية شبابية ساهمت بشكل كبير في الرفع من مستوى الوعي وتماسك وإيصال مطالب المعتصمين بالساحة لداخل وخارج ليبيا، في بدايات شهر أبريل التقيت الراحل “عبدالسلام المسماري” داخل فندق تيبستي وكان برفقته السيد “محمد أستيته” وبعد حوار طلب مني الانضمام في أحدي لجان “ائتلاف ثورة السابع عشر من فبراير” تحديدًا بلجنة الدعم المعنوي التي كان يرأسها “محمد أستيته” وكان عمل اللجنة هو توفير الدعم المعنوي للمواطنين المعتصمين حول محكمة شمال بنغازي وإقامة الأنشطة الثقافية والسياسية والتوعوية، التي أقمناها بشكل متواصل داخل قاعات مجمع الدعوة الإسلامية ومناشط أخرى اجتماعية وفنية استهدفت فئات متعددة من المجتمع.

في الأثناء كان هناك صراع شبه خفي وغير واضح المعالم داخل الائتلاف وخارجه والخطاب بعد التدخل الدولي وقرارات مجلس الأمن أصبح يتغير وظهرت حالة من الاستقطاب في ساحة، بعد استيلاء الإسلاميين على المنصة في التي تم وضعها بمنتصف الساحة وفرضوا لجان تتولى تنظيم الكلمات وتتحكم من خلالها في الخطاب الموجه لجموع المعتصمين بالساحة، وإطلاق خطاب إقصائي يستهدف بعض الشخصيات التي لديها موقف ضد الهيمنة على الثورة وترفض الاقصاء الذي ينادي به المحسوبين على الإسلاميين المنتشرين في الساحة.

كان الحراك الشعبي عاطفي بدرجة كبيرة و متجاورًا لهذه القضايا وينادي بهدف واحد “إسقاط القذافي” وإنهاء المعارك المسلحة لصالح الثورة، ومن ناحية أخري لم يخف الإسلاميون طموحهم في السيطرة التامة على الثورة فخلقوا مصطلحًا ميزوا به المقاتلين الموالين لهم في الشق المسلح وهو وصف “الثوار” في محاولة لاختزال العمل المسلح في المقاتلين الموالين لهم حتى أنهم لم يطلقوا هذا الوصف على العسكريين النظاميين الذين كانوا جزءً من العمل المسلح، مثلًا لم يطلق على جنود الصاعقة أو ضباط السلاح الجوي الذين يرجع لهم الفضل في حسم أهم مسارات الثورة في 20 فبراير و 19 مارس.

وتطور الأمر حتى أخرجوا وصف الثوار الحقيقيين وغير الحقيقيين وقاموا بوضع قادة لهؤلاء الثوار وأطلقوا عليهم وصف “القادة الميدانيين” وتقديمهم عبر القنوات الفضائية بأنهم القادة الذين يقودون المعارك ضد قوات القذافي ومن أبرز هذه القنوات كانت قناة الجزيرة القطرية، رغم أن القيادات الإسلامية التي قفزت بنجاح لمركب فبراير قادوا حوارات مع النظام خارج ليبيا في الشهور الأولي للثورة لإنهاء الاحتجاجات لصالحه، ولكنهم فشلوا فالثورة كانت شعبية عارمة ولا يمتلك أي تيار أو جماعة قرار ايقافها.

واتخذت محاولات الهيمنة أسلوبًا أخر تمثل في التحريض المباشر والذي كان أول ضحاياه اللواء “عبدالفتاح يونس” ورفاقه الذين تم الغدر بهم من قبل الفصائل المسلحة الموالية للإسلاميين، بعد حملة تخوين وتحريض انتهت بإصدار قرار للقبض على يونس ورفاقه وتصفيتهم، اللواء يونس كان يدرك أبان المعارك بالدور السيء الذي يلعبه الاسلاميون على الأرض من خلال كتائب المسلحة الموالية لهم والدعم القطري المقدم لهم عن طريق قيادات إسلامية على رأسها “علي الصلابي”.

وفي ذات يوم قال لي الراحل “عبدالسلام المسماري” إن قرار التصفية صدر من قبل هذا التحالف الذي قام بإحياء الماضي الذين بين اللواء يونس والمسلحين الموالين لهم بطريقة خبيثة عبر موجة من التحريض والتخوين أطلقوها بينهم في الجبهات أدت إلى تصفية اللواء يونس ورفاقه وإزالة العقبة التي كانت تعيق مشروع هيمنتهم على الثورة بقوة السلاح، لعزم اللواء يونس لاسترداد ملكية السلاح للجيش وقام تدريب وتخريج الجنود والمعارك قائمة وكان يؤكد على ضرورة ضبط السلاح والبدء في تنظيمه، ومنذ اغتياله لم تعد الأمور أمام الجميع تسير بالشكل الصحيح وساد الحزن والغضب بين الشباب وأهالي بنغازي والليبيين عامة بعد حادثة اغتياله وتصفيته.

والأمر الذي جعل حجم الخوف يرتفع لدينا هو عجز المجلس الوطني الانتقالي على إيقاف هيمنة الإسلاميين الذي أصبحوا يتحكمون في قراراته بتواطؤ مع القطريين، وفي شهر أغسطس أصبحت أعمل مباشرةً مع الراحل المسماري والذي كانت لديه مواقف واضحة تجاه كل هذه الانحرافات وتجاوزات والعبث بمصير الثورة من قبل الإسلاميين وأدواتهم المسلحة.

بالتزامن، أصبح هذا الوعي يتكون بدرجة كبيرة بين الصفوف المدنية، انطلقت العديد من التحركات المعارضة للانتقالي وسياساته ورفض الهيمنة على الثورة، وفي الائتلاف اتجهنا لإقامة وقفاتنا أمام فندق تيبستي للممارسة المعارضة، أُعلن في أكتوبر إعلان التحرير، الذي ساهم في فك القيود أكثر على التيارات السياسية والمنظمات المدنية لتعلن معركة لتحقيق أهداف ومطالب الثورة والسير بالبلاد نحو عهد جديد ومستقبل واعد، استؤنفت جامعة بنغازي الدراسة وأسست رفقة عدد من الرفاق بالكلية كيان طلابي تأسيسي يتبنى قضايا الطلبة والمطالبة بحقوقهم ومحاولة التأكيد على أهمية العمل النقابي للطلبة وأُسس الكيان بالرفاق “صالح الورفلي، منصور بومدين، محمد الهوني، الشهيد مصطفي المصراتي، الشهيد محمد الشيخي، سارة الورفلي، محمد الدرسي، سفيان الترهوني” وعدد أخر من الزميلات والزملاء الذين التحقوا بنا وانضموا وعززوا قوة الكيان، لم تكن أمامنا خيارات حول التسمية التي سوف نطلقها على الكيان، مسمى الاتحاد لازال مرتبط لدى أغلب الطلبة بالاتحاد السابق وسلوك النافذين به.

وتم اقتراح تأسيس “ائتلاف طلبة كلية العلوم – جامعة بنغازي”، أخذت المقترح واتجهت للراحل “عبدالسلام المسماري” الذي كان يعمل متطوعًا داخل المجلس التسييري لبلدية بنغازي بجوار مبنى شركة الخطوط الجوية الليبية رفقة المحامي جمال بالنور وعدد أخر المحاميين والاداريين، جلست معه وكان برفقتي الرفيق بومدين، اطلع على المقترح وقال “ممتاز… ولابد أن العمل لأجل الطلبة وممثل لهم ويدافع عليهم ويطالب بحقوقهم ويوفر لهم مناخ للتميز والمنافسة وينشر بينهم الوعي وتفاعل مع القضايا الوطنية واسم الائتلاف لابد يكون خاص بكم ولا يتبع لأي كيان يعمل من خارج الحرم الجامعي ومنها ائتلافنا لكي لا تعطوا فرصة لبعض التيارات اقتحام الحرم الجامعي ومن طبيعي لكم الحق في المجاهرة بأفكاركم المختلفة وتتفاعلوا مع بعضكم كطلبة” وتفرع النقاش لقضايا أخرى وانتهت الجلسة بعد منتصف الليل.

عدنا لرفاقنا بنفس المقترح مع الأخذ بنصائح المسماري، أعلنا عن الاجتماع التأسيسي في نوفمبر عام 2011 حضروا الطلبة و عميد الكلية “أحمد مامي” الذي رحب بنا وأبدى استعداده بالتعاون معنا، وبدأت نشاطاتنا على الفور وتواصلنا مع بقية الأجسام الطلابية في باقي الكليات، بهدف نصرة الطلبة في القضايا المشتركة ودفاع عنهم ونيل حقوقهم، وجدنا أنفسنا مرهقين بين حراك الشارع والحراك الطلابي والأمل والحماس بداخلنا كبير جدًا، وفي الاثناء أُعلن عن حراك ميدان الشجرة المُطالب بتصحيح مسار الثورة والذي نشطنا به بدعوة من أحد المؤسسين للحراك المغدور “أحمد الكوافي”.

وجمع الحراك كافة الحركات السياسية والمدنية والشخصيات المستقلة وتوافد للميدان أعداد كبيرة من المواطنين الذين شعروا بالخطر الذي يهدد الثورة تاركين ساحة المحكمة للإسلاميين الذين لم يؤيدوا الحراك وحاربوه، كنا نذهب صباحًا إلى الجامعة لحضور المحاضرات والعمل بالائتلاف ويغادر أغلبنا من بعد الظهر ثم نجدد اللقاء بميدان الشجرة مساءً.

في يناير أصبح الحراك يتضاءل وعدد من قيادته أصبحت تنسحب مقابل تسوية مع المجلس الوطني الانتقالي عن طريق وكلائه، أنهار ميدان الشجرة وتفرق المعتصمين ولم يعد هناك رغبة لاستمراره، وأبلغنا أن المجلس الوطني الانتقالي تمكن من احتواء بعض القيادات بالحراك مقابل إنهائه وتفكيكه، بقينا داخل جامعة بنغازي وحاولنا بالقدر المستطاع العمل بتوازن بين القضايا الطلابية والوطنية ومسارنا العلمي.

كنا متحمسين جدًا ومتخوفين في ذات الوقت فالمستقبل اعتبرناه لنا أما الواقع كان يسرقه منا، ومع دخول العام الأول للثورة كان الحراك في المدينة أكثر تنوعًا ونضوجًا فمن جهة كان الحراك الطلابي داخل الجامعات يبذل جهد كبير في توعية الطلبة ونيل حقوقهم وإقامة الأنشطة لهم، مع ظهور منافسة بين الأجسام الطلابية في الكليات وهناك شبه توافق وترابط بين قيادات الاتحادات، وتحول الائتلاف إلى اتحاد طلابي تأسيسي بعد تزكية ما يقارب ثلاثة آلاف طالب وطالبة لنا بالتوقيع الشخصي وهذا الأمر أعطانا شرعية مضاعفة لتمثيل الطلبة ودفاع عنهم والمطالبة بحقوقهم.

وفي المدينة اتضح شكل القوة مدنية التي قد تختلف درجات في الأفكار ولكنها متحدة المواقف وتتفق في ثوابت عديدة أبرزها “حرية ليبيا وقيام دولة مدنية ديمقراطية بدستور يحفظ كرامة المواطنين ويضمن لهم حق التعبير عن الرأي والمناداة بدعم المؤسسات الشرطية والأمنية والعسكرية عمود الأمن والاستقرار وحل الكتائب المسلحة ورفض الهيمنة على الثورة والتدخلات الخارجية الداعمة لها”.

وفي نهايات شهر فبراير وبعد انتقال المجلس الوطني الانتقالي لطرابلس، فرضت الكتائب المسلحة نفسها كأجسام بديلة للجيش واللجنة الأمنية العليا بديلة للشرطة بشرعية من المجلس، ليجد التيار المدني نفسه أمام مواجهة مصيرية مع هذا المشروع.

أُعلن عن انطلاق الحراك الفيدرالي مطالبًا بتطبيق النظام الاتحادي في ليبيا لتعود لنظام الأم التي نالت من خلاله استقلالها، جمع الحراك العديد من القيادات والنخب المدنية والسياسية في بنغازي.

وكان من أهدافه إنهاء المركزية والتوزيع العادل للموارد وإعادة المؤسسات التي نقلت من بنغازي وتطبيق النظام الفدرالي، أطلق الإسلاميون الأسهم سريعًا باتجاه الحراك من خلال قنواتها المرئية والمسموعة محاولين تحشيد الرأي العام ضده وأخذوا المسلحين الموالين لهم الموقف ذاته وقاموا بقمع إحدى تظاهرات الحراك التي انطلقت من أمام ساحة تيبستي وانتهت في ساحة محكمة شمال بنغازي حيث أطلاق الرصاص على المتظاهرين وأصيب عدد منهم بسبب الحملة الممنهجة التي استهدفت الحراك ومن أسبابها الزخم الشعبي الذي ناله الحراك، نشطت في الحراك لمشروعية مطالبه منذ انطلاقه وحضرت الوقفات الأولى له حتى التظاهرة التي قُمعت كنت شاهدًا على أحداثها.

ولم يكن في الحقيقة قادة الحراك من الغرباء فأغلبهم هم رفاق لنا إبان حراك الثورة بساحة المحكمة أو ميدان الشجرة، وكانت هناك وجهات نظر معارضة للطرح وتوقيته ولكنها لم تساهم في التحريض ضد الحراك وكانت أغلبها تفضل الذهاب لمسار الانتخابات والدستور قبل المطالبة بشكل الدولة ووجهات نظر أخرى تُقبل كمعارضة مدنية سلمية للحراك.

وفي ذات الوقت ضغط التيار المدني على ضرورة إجراء انتخابات لانتخاب بلدية بنغازي وتم إنجازها في شهر مايو بمشاركة شعبية واسعة، ومن الانتخابات البلدية أصبح ترتفع أصوات المتطرفين الذين كانوا داخل أغلب الكتائب المسلحة الموالية للتيارات الإسلامية وجعلوا من التيار المدني أول أهدافهم المشروعة كونه التيار الذي يدافع وحيدًا على المبادئ والقيم الديمقراطية وبناء دولة مدنية بمؤسسات القانون والعدالة، وفي أواخر شهر مايو شهر أعلن عن تأسيس كتيبة أنصار الشريعة – كفرع لتنظيم القاعدة في بنغازي.

وأقيم الملتقى الأول لنصرة الشريعة بجوار ساحة محكمة شمال بنغازي، بحضور أعداد كبيرة من المسلحين والآليات يرفعون جميعهم الرايات السوداء الشهيرة، بمشاركة كتائب مسلحة كان يصفها الاسلاميون بأنها “معتدلة وتمثل الثوار” في الاستعراض المسلح وهي الكتائب “لواء درع ليبيا، كتيبة ليبيا الحرة، كتيبة أبي عبيدة بن الجراح – التي تمت تصفية اللواء يونس ورفاقه بمقرها، كتيبة محمد الحامي، كتيبة الفاروق من مدينة مصراتة، كتيبة ثوار سرت – التي انصهرت ضمن داعش لاحقًا، سرايا راف الله السحاتي، كتيبة صالح النص، جهاز الأمن الوقائي، ومجاميع مسلحة أخرى أتت من مدن درنة وأجدابيا، انطلقت الارتال المسلحة من مصنع الاسمنت بنغازي وتجولت في شوارع المدينة وكان يومًا مرعبًا، وانتهي الاستعراض بجوار ساحة محكمة شمال بنغازي، رفضوا في ذلك الملتقى “الدولة التي لا تحكم بما أنزل الله وأن الشريعة الإسلامية لا تطرح للاستفتاء وطالبوا بإبعاد العسكريين ورجال الأمن الذين ناصروا الثورة و وصفوهم بالأزلام ولم يرفعوا في ذلك اليوم راية البلاد وتوعدوا الليبراليين والعلمانيين قاصدين التيار المدني بالويل”.

وعند قرب ختام استعراضهم خرج عليهم جمع من شباب المدينة من سوق الحوت رافضين شعاراتهم وهتفوا لهم بالذهاب لأفغانستان، منذ ذلك الوقت أصبح يدرك التيار المدني بأن هناك معركة يجب الإعلان عنها وتأكدنا جميعًا أن الخطر أصبح يتمثل في هؤلاء المتطرفين الذين تحولوا بين ليلة وضحاها من ثوار مقاتلين لأجل الحرية والديمقراطية إلى إرهابيين لأجل دولة تنظيم القاعدة وتكفير الديمقراطية.

ولقرب موعد الانتخابات التي كانت تراهن عليها التيارات الإسلامية والمقررة في شهر يوليو من نفس العام؛ تمت تهدئة هذه الفصائل والكتائب، وأعلن الإسلاميون عن أجنحتهم السياسية ففرع تنظيم جماعة الإخوان المسلمين أطلق حزب العدالة والبناء، وجماعة الليبية المقاتلة حزب الوطن، وجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا حزب جبهة الانقاذ، وأحزاب أخرى تُمثل بعض الأصوليين الأخرين للاستعداد للانتخابات ليتم بعد ذلك حماية هذا السلاح من خلال هذه الأحزاب داخل السلطة التشريعية المنتخبة والاحتماء به في نفس الوقت.

التيار المدني في بنغازي تُرك وحيدًا لا وجود لأجهزة أمنية قوية تسانده ولا قوات عسكرية قادرة على دفاع عنه، وبنغازي آنذاك كانت تفتقد للكتائب النظامية العسكرية “القوات الخاصة – الصاعقة” في مدينة سبها و “كتيبة شهداء الزاوية – 21” في سرت وباقي الكتائب لا يوجد لديها الإمكانيات لتتعامل مع التطرف المسلح وتعلن انحيازها مع الشارع الرافض له، التيار المدني العريض في بنغازي أصبح ينكمش والأحداث بعد الانتخابات ازدادت للأسوأ اغتيل العقيد “محمد هدية” في يوم الجمعة من شهر أغسطس من نفس العام وقبل اغتياله بليلة واحدة كنا نحتفل معه بذكرى تأسيس جيش التحرير السنوسي رفقة الراحل “عبدالسلام المسماري” بعدما وجها لنا الدعوة السيد “عدنان أخليف” وتفاجئنا في ظهيرة ثاني يوم بأنه أُغتيل أثناء خروجه من صلاة الجمعة، وفي شهر سبتمبر تم استهداف مقر القنصلية الأمريكية للمرة الثانية.

في الذكري الـ 12لأحداث سبتمبر وقتل السفير الأمريكي “كريستوفر ستيفنز” وعدد من مرافقيه، وبعد هذا الحادث خرج التيار المدني بميدان الشجرة لنعبر عن رفضنا للإرهاب ومطالبين بالجيش والشرطة الأمر الذي جعل أمير تنظيم أنصار الشريعة “محمد الزهاوي” يذكر في لقاء له عبر قناة bbc الناطقة باللغة العربية “بأن معركته مع التيارات العلمانية والليبرالية وتيار المدني لن تنتهي إلا بتحكيم شرع الله على هذه الأرض” اجتمعت القوى المدنية وأُعلن عن “جمعة إنقاذ بنغازي” في يوم 21 سبتمبر 2012 لتنديد بالإرهاب والمطالبة بإنهاء المليشيات المسلحة ودعم المؤسسات العسكرية والشرطية، وأعلنت أنصار الشريعة وباقي المجاميع عن وقفة موازية في ساحة الكيش النقطة التي قررنا إنهاء التظاهرة بها.

انطلقت المظاهرة بمشاركة الآلاف من سكان المدينة وعند وصولها لنقطة النهاية في ساحة الكيش حدث التصادم بيننا وبين العناصر المسلحة ولم يصل هذا التصادم للاعتداء بالضرب ولكنه كان لفظي وهتفنا “بالجيش والشرطة ورفض الإرهاب” وكانوا يهتفون بعبارات التكفير والتطرف، وتأكد لنا أن خطوتهم هذه كانت للاستفزاز، كيف لهم بأن يقوموا بهذه الخطوة ونحن في وقت سابق تقدمنا بإخطار مديرية الأمن بأن خط التظاهرة سيبدأ من ساحة تيبستي وينتهي في ساحة الكيش وتم تعميم الدعوات على المواطنين، كانوا يريدون التصادم وإظهار قوتهم أمامنا، وبعد إلقاء البيان الختامي توجه عدد من المتظاهرين للتظاهر أمام مقرات هذه المجاميع المسلحة وتصاعدت مساءً لتؤدي لمقتل 14 متظاهرًا قتلوا برصاص مسلحين سرايا راف الله السحاتي وقتل 6 جنود تابعين للواء الأول مشاة تم الغدر بهم أثناء تواجدهم في أحدي النقاط الأمنية، كانت الفرصة ثمينة أمام السلطات لإنهاء هذه الكتائب والاعلان عن حلها تلبيته لنداء المتظاهرين.

ولكن ما حدث العكس حضر رئيس المؤتمر الوطني العام “محمد المقريف” إلى مطار بنينا ببنغازي واجتمع بقيادات هذه الكتائب وأكد على شرعيتها وتبعيتها لسلطة المؤتمر الوطني العام متجاهلًا لمطالب المتظاهرين والجموع التي خرجت وضحت في سبيل إنهاء وحل هذه الكتائب، ترسخت القناعة لدى الجميع أن مدينة بنغازي أصبحت تواجه منفردة في الإرهاب المسلح الذي أعلن عن نفسه بشكل صريح، ولم تتخذ السلطات خطوة حاسمة لمحاربته والقضاء عليه رغم المناداة والدعم الشعبي لهذه لأي خطوة في هذا الاتجاه، لم يتحدث المفتي الذي نصبوه الإسلاميون مفتي الثورة عن الأمر.

ولم يكن هناك موقف دولي يحث السلطات على محاربة التطرف، والسلطة المحلية المتمثلة في المجلس البلدي بنغازي اتخذت موقف مخجل مهادن لهذه الكتائب، والأوقاف ومشائخ الدين هم كذلك لم يصدر منهم أي موقف تجاه هؤلاء المتطرفين حتى المجموعات الدينية التي تتعارض معهم عقائديًا لم يكن يجرؤ أحد منهم على الحديث وكانوا يحثون في الناس بعد الخروج مع التيار المدني والالتزام في البيوت، وكانت المنابر الموالية لهم تحرض بشكل علني على التيار المدني وقياداته و وصفنا “بأتباع الغرب العلمانيين والليبراليين مغرقين بنغازي في الدماء”.

ولكن مصير الوطن كان يجب أن يحدد أما الخلاص أو الرضوخ فتقرر الخلاص وأعلنا عن وقفات وتظاهرات عديدة ومتكررة وبعد “جمعة إنقاذ بنغازي” أُعلن عن “جمعة بنغازي لن تستلم” تصاعد منهم العنف وارتفعت موجة الاغتيالات وأصبحت تستهدف رجال الأمن والجيش والتيار المدني، صور أسامة بن لادن تنتشر في شوارع المدينة والملتقيات العقائدية لأنصار الشريعة كانت تقام دوريًا داخل مناطق المدينة، وحاولوا الدخول للحرم الجامعي وتم التعرض لهم ورفض نشاطهم بالكلية من قبل الرفاق بالاتحاد.

وتقدمنا بمذكرات احتجاج لعميد الجامعة الدكتور “محمد دغيم” والمسجل العام للجامعة “عبدالله أمحيور”، التيار المدني ناضل ضد هذه الجماعات نضال تاريخي يجعل بنغازي وليبيا تعتز به وتخلده في التاريخ، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال اختزال هذا التيار في شخوص معينين نظرًا لأن نضاله شارك فيه عموم الشعب فلولا شعب بنغازي الذي استجاب لنداءات لفشل التيار المدني في الاستمرار وأرهق في بدايات طريقه، لم يخلوا التيار المدني في بنغازي من الانتهازيين الذين ظهروا على حساب نضاله، ولكن المواجهة أظهرت صفوة هذا التيار وهم كثر ولا زالوا يناضلون لأجل بنغازي وليبيا.

لم يتوقف النضال واستمر من خلال التظاهرات والوقفات التي بثت الأمل داخل بنغازي وبين أهلها بالمبادرات الوطنية والعمل الوطني والتطوعي، لم يكن هناك رفض للسلم أو الحوار والخيار المسلح كان مرفوضًا على أمل أن يأتي الحل الذي يزيل وينهي الإرهاب والكتائب المسلحة الموالية له ولكنه طال ولم يأتي، والصراع السياسي كان على أشده وتغاضى الجميع عن الأولويات التي تؤدي بنا للاستقرار.

استمر إرهاب التيار المدني وطالت الاغتيالات عدد من قياداته، التيار المدني الذي نضال منذ الأيام الأولي للثورة ومثل الوجه المدني والسلمي لها، حتى انطلقت عملية الكرامة التي لم يكتب لها النجاح لولا النضال والكفاح الذي قاده التيار المدني طوال الأربع سنوات التي قبل العملية، وبعدها كذلك لازالت تناضل كل الأطياف المنتمية للمدنية والنضال لأجل ليبيا الديمقراطية والحداثة.

لم يكن هناك عداء ضد الإسلاميين وهم من اشتروا العداء مع الجميع بسبب الانتهازية التي من أساسات منهجهم إضافة للاستغلال والانفراد والاقصاء، وأشعلت قياداتهم في وقت مبكر هذا الصراع عبر تحشيد الرأي العام ضد معارضين لهم عبر الإعلام المرئي والمسموع منذ الشهور الأولى للثورة، صنفوهم بالأزلام والليبراليين والعلمانيين مستغلين المُغيبين سياسيًا وثقافيًا ليقوموا بتقديم لهم هذا الخلط كأساس للتكفير والقتل في مجتمع ينحاز غالبيته مع العاطفة الدينية وهم كانوا أهلاً لاستثمار هذه العاطفة، وتحريكها نحو خدمة مشروعهم والذي يعتبر إقليمي ويتجاوز حدود الوطن ليبيا .

وفي ختام هذه المقالة، من الصعب سرد التفاصيل الدقيقة لنضال التيار المدني، ولكن من المؤكد سوف يعاد وضع التفاصيل بين هذه السطور لتكن سردًا تفصيليًا يساهم في معرفة ما الذي حدث ولماذا ،”لأرواح أولئك الأبرياء الذين قتلوا غدرًا لنضالهم ودفاعهم عن الوطن السلام والمحبة لأرواحكم النقية والمُخلصة”.

“اغتيال على طريق الحرية .. الاغتيال على الطريق …5”

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى