كتَـــــاب الموقع

“اغتيال على طريق الحرية … من بنغازي إلى برلين ..7…”

عبدالله الغرياني

لم يكن قرار مغادرتي لبنغازي ثابتًا في عقلي وترددت كثيرًا لاتخاذه، فلقد عدت إليها بعد الموت لمواصلة السير في طريق الحرية, كنت على قناعة بأن الحرب ستنتهي ذات يوم ولابد من تثبيت البوصلة لنستكمل رحلتنا في هذه الطريق الشاقة، ففي الحادي عشر من فبراير عام 2014 سافرت بجراحي الكبيرة وجسدي الممزق إلى العاصمة الأردنية عمان لتلقي العلاج الأساسي هناك، ومن ثم تقرر نقلي للعاصمة الفرنسية باريس بعد تدخل من الراحل الدكتور “محمود جبريل” الذي عملت معه في حزب تحالف القوى الوطنية وكان في هذه الأزمة الأب والأخ والصديق الذي لم يتخلّ عني حتي أصبحت أقف جزئيًا ومتجاوزًا للمراحل الحرجة، وصلت لباريس ظهر يوم التاسع والعشرين من أبريل من نفس العام، ليتم نقلي من مطار شارلي ديغول إلى المستشفى الأمريكي باريس وفور دخولي إليه لم آخرج منه إلا بعد سبعة أشهر، تم وضعي في غرفة ثابتة لا أخرج منها إلا لغرف العمليات وأعود إليها فاقدًا للوعي جزئيًا بعد الجراحة، كانت أيامًا صعبة ومؤلمة اخضع فيها لعمليتين جراحية في الاسبوع الواحد لتنظيف منطقة الاصابة باستعمال البنج الكامل، حتي أدمنت غرفة العلميات ولحظة أدخال المادة البيضاء “البنج” الذي افقد من خلاله الوعي تدريجيًا فور دخوله للوريد، كان جسدي الصغير يقاوم بصعوبة تبعيات الاستهداف الغادر في حوضي وبطني ومناطق أخرى من جسدي، وفي الجانب النفسي فقد كنت منهارًا وغير مستوعب للذي حدث كنت أشعر أحيانًا بأن الاستهداف قد يتكرر وأنا نائم في سريري وأن أيادي الإرهاب قد تدخل وتصل لتنهي حياتي من جديد، ومع هذه الظروف وجدت نفسي مبعدًا عن وطني في غربة مفاجئة لم أمهد لها لكي أتاقلم فيها كان القرار سريعًا خرجت صباحًا من المنزل وجدت نفسي عرضة للاغتيال ومن ثم مرمي على الطريق بعد ذلك داخل المستشفى وأصبحت أتنقل سريرًا من قارة لقارة من خلال الطائرات لأدخل المستشفى تولي الأخرى، أُصبت بحالة عصبية شديدة ولم استطيع فصل نفسي عن الاحداث الدائرة في بنغازي التي كانت تأثر في تآخر العلاج وكان يفشل مرارًا بسبب الالتهابات في الجرح الذي لم يتوقف وفشل الاطباء مرارًا في ترميم الورك وتركيب مفصل صناعي جديد يعوض الذي اختفي جراء التفجير، أعصاب ساقي اليمنى تالفة وتسبب لي الآلام شديدة لا تتوقف إلا بجرعة مورفين صباحًا وظهرًا وعلى المغرب وليلًا، أتذكر من هول هذه الالام كان طاقم التمريض عندما يأتي لتغيير السرير وتنظيفه وغسلي يقوم بإحضار غاز مخدر ليتمكن من تحريك جسدي بأريحية دون شعوري بألم، لقد كانت أيام وشهور حرجة ومؤلمة للغاية تضررت فيها كثيرًا وتعب كل من كان معي مسؤولًا على حالتي من أطباء وتمريض وطاقم السفارة ومرافقي وهو أخي، كنت أغيب عن الوعي لأيام ليذكرني أخي عندما استيقظ عن بعض الزوار الذين أتوا لزيارتي ولم اتفطن لهم لخلودي للنوم أو متأثرًا من الادوية، أطلب باستمرار بأن تبقى الغرفة مغلقة بشكل متواصل وارفض دخول الشمس إليها وأشدد على عدم فتح الستائر لبقائها مظلمة، كانت هناك ممرضات أصولهن من دول تونس والمغرب يعملن في المستشفى تم تكليفهن للاهتمام بي، كنّ لطيفات كثيرًا وأحترم رأيهن ولكن في بعض الأوقات أضطر لإيقافهن بعنف خصوصًا إذا حاولن فتح الستائر عن النوافذ، في ذات يوم بعد وصولي بأسابيع في شهر مايو دخلوا اثنين في وقت الظهيرة للغرفة التي كانت مظلمة وكنت انتظر التمريض لنقلي لغرفة العمليات لإجراء عملية تنظيف توجه احدهم نحو النوافذ وفتح الستائر بقوة رفعت الغطاء بغضب لرؤية من قام بهذا الـمر لأجده الدكتور “محمود جبريل” برفقته احد مساعديه كان في زيارة لباريس لعلاج ابنه وقرر زيارتي للاطمئنان على وضعي الصحي تحدثنا كثيرًا ليبلغني بأنه سيعود لليبيا لحضور الاحتفالية الثانية لتأسيس تحالف القوى الوطنية الذي تم تكريمي فيه بدرع التميز، وبعد مضي أربعة أشهر في شهر أكتوبر دخلت للغرفة المظلمة والدتي وبرفقتها شقيقاتي قادمين من ليبيا أنعشت زيارتهم الجانب العاطفي في قلبي وشعرت بأنني قريبًا من حياتي الأولي التي فقدتها وأصبحت أبحث عنها في هذه الظروف، بقيت والدتي شهر في باريس وكانت تنام في بعض الليالي معي في الغرفة ترفع يداها إلى الله لتدعو لي ولبنغازي وليبيا بالشفاء والفرج، كانت والدتي منشغلة عني وعن بنغازي والبيت و والدي وبقية إخوتي هناك فشباب المدينة قرروا الخروج بأسلحتهم لتأمين مناطقهم وتسهيل دخول الجيش للمدينة خلال ما يعرف بانتفاضة شباب المناطق حتي غادرت باريس لتعود إلى بنغازي وكان يوم وداعها قاسيًا جدًا على قلبي، ومضت السبع شهور الأولي في المستشفى الأمريكي وتمت زراعة مفصل على أمل أن تستقر الحالة وأستطيع المشي من جديد، وفي شهر ديسمبر من نفس العام غادرت المستشفى الامريكي لمستشفى “سان جوزيف” للعلاج تأهيلي لأتدرب على المشي من جديد ولم يمض على دخولي شهر واحد ليعود الالتهاب من جديد ويعلن عن فشل العملية التي أتت بعد عمليات عديدة تجاوزت ما يقارب 35 عملية جراحية وبسبب هذا الالتهاب كان لابد من إزالة المفصل في نفس المستشفى لأعود للانهيار من جديد، بقيت بالمستشفى الأمريكي ستة أشهر أخرى وقرر الاطباء زراعة مفصل جديد تجريبي، ليتم بعدها نقلي لمركز جديد للتأهيل وهناك تقرر أن الحالة أصبحت مستقرة والمفصل التجريبي لابد من بقائه داخل الجسد لمدة ستة أشهر لاختباره داخل الجسد وفي شهر أكتوبر أي بعد عام وستة أشهر سمح لي بالخروج لرؤية الحياة الطبيعية على الكرسي المتحرك، العلاج النفسي الذي تولاه الدكتور التونسي “فيصل فتح الله” كان من أهم مراحل العلاج وله الفضل لأعود من جديد لل‘نسان الطبيعي الذي تجاوز صعوبات عديدة ليعلن عن تحدي ما تبقى منها، خرجت للفندق الذي يقع في قلب العاصمة باريس الجميلة كنت صباحًا ومساءً آخرج لأجلس في المقاهي اتفسح مساءً في شوارعها وميادينها حاولت بهذا الخروج المتواصل نسيان الماضي والبداء في حياة جديدة ومختلفة بوضعي الصحي والجسدي الجديد، ولكنني لم أستطع التجاوز حضر لباريس رفيقي “حليم الكوافي” لأقرر معه العودة إلى بنغازي، خضعت لجراحة دقيقة للأمعاء مكثت في المستشفى أسبوعين بعدها لآخرج في شهر نوفمبر للاستعداد للعودة لمدينتي فهناك راحتي وأهلي ورفاقي ورحلة كفاحي بنغازي الحبيبة أنا عائد إليك رغم أصوات المدافع والرصاص والتفجيرات سأعود لرؤية النصر وانتهاء الظلام لأشاهد شروق شمس الأمل والانطلاق في الطريق من جديد نحو الحرية.

ولكن الأوضاع لم تكن كما توقعت وسردت في “اغتيال على طريق الحرية .. الحرب على الإرهاب” فقررت السفر ولكن إلى أين لا أعلم فقط أريد الخروج ولو مؤقتًا، في شهر مارس عام 2016 غادرت بنغازي إلى العاصمة المصرية القاهرة لألتقي الراحل الدكتور “محمود جبريل” بمكتبه في مدينة نصر، استقبلني بحرارة وكان منبهر بالوضع والتحسن الصحي، بالتزامن أقام مركز مسارات ورشة عمل بفندق البارون لأعضاء وقيادات حزب تحالف القوى الوطنية إعطاء من خلالها “محمود جبريل” محاضرات كانت قيمة جدًا، وفي ختام الدورة حصل الجميع على شهادة حضور والتقطنا صورة جماعية مع “محمود جبريل”، أبلغته أنني أرغب في البقاء بالقاهرة وأحاول أنشط من خلال تواجدي بها واستكمال الدراسة والعلاج، فلم يتردد وقال لي أنا معك ولكنه شدد على ضرورة استكمال العلاج في باريس والنشاط والدراسة تبدأ بعد استكمال علاجك، وجدت في القاهرة مناخ جيد للنشاط المدني والسياسي بتواجد مجموعات من الشخصيات الفاعلة، كان لازال هناك وقت للبدء في استكمال العلاج من جديد ومن هنا التحقت بمجموعة المدافعين عن السيادة الوطنية وهي مجموعة سياسية ومدنية كان هدفها العمل على معارضة مخرجات اتفاق الصخيرات الذي كنا ننظر إليه على أنه سوف يعيد وينعش أجسام وكيانات ابعدتها الديمقراطية في انتخابات السلطة التشريعية بيونيو عام 2014 وطالبت المجموعة بضرورة إيقاف دعم وتمويل المجاميع الإرهابية المسلحة المنطوية تحت “مجلس شوري ثوار بنغازي” الذي كانت تقف وراءه تيارات ممثلة في مخرجات الصخيرات، وأثناء العمل مع المجموعة زار رئيس مجلس النواب “عقيلة صالح” القاهرة لتقرر المجموعة تكليف أشخاص لمقابلته والحديث معه حول مبادرتنا كمجموعة المدافعين عن سيادة الوطنية، ذهبنا مساءً لزيارة صالح بمقر أقامته بأحد الفنادق بمصر الجديدة وهو أول وآخر لقاء معه، دخلنا للفندق وجدنا مجموعة من حراسه ومرافقيه يجلسون في أحدي مقاهي الفندق بالأسفل استقبلنا أحدهم وانتقل بنا للجناح الذي يقيم به صالح، وصلنا للممر الذي كان به عدد من الحراس يمينًا ويسارًا المؤدي للمكتب الذي يجلس به في جناحه فتح لنا أحدهم الباب من الداخل لندخل وقابلنا صالح الذي كان يجلس على الصالون وخلفه مكتبه، رحب بنا ورحبنا به وجلسنا بحضور أحد الشباب بالمجموعة وأحد مستشاريه وهو الآخر كان معنا بالمجموعة ورتب لنا الزيارة، أوضحت مباشرةً لعقيلة صالح بأننا لم نري الهناء يومًا بعد انتهاء الثورة في عام 2011 وأن التيارات الإسلامية أشعلت فتيل الانقسام منذ الشهور الأولى للثورة ومارست الاقصاء والتحريض و وقفت وراء دعم وتمكين المجاميع المسلحة في مدينة بنغازي والمتحدة اليوم تحت مظلة “مجلس شوري ثوار بنغازي” والذين يقاتلون ضد الجيش الليبي ويطلقون الإصدارات المرئية التي ينكل فيها بجنود الجيش وتستهدف في المدنيين ويبتهجون فيها بالعمليات الانتحارية قلت له: أنا أحد ضحايا هؤلاء وأجلس أمامك لقد استهدفونا لأننا رفضنا سلاحهم وارهابهم وناضلنا سلميًا في حراك لا للتمديد لأجل التداول السلمي على السلطة الذي أتي بمجلس النواب الحالي نحن لسنا ضد السلام أو المصالحة ولكننا في حرب مشروعة ضد الإرهاب نريد من أطراف الوفاق والتوافق الاعتراف بذنبهم ويعلنوا عن توقفهم في دعم وتمويل هذه المجاميع الإرهابية المسلحة إذا كان لديك موقف مماثل فنحن معك كشرعية منتخبة من الشعب أوكلت للجيش مهمة محاربة الإرهاب، وإذا كان لديك موقف آخر فنحن نطلب منك بأن تقف مع موقفنا والمطالبات المدنية في ساحات وميادين بنغازي والمدن الشرقية الأخرى فنحن في معركة مصيرية لابد بأن تنتهي عاجلًا لنتمكن من العبور نحو واقع ومستقبل أفضل، استوعب صالح الحديث وكرر أنه يقف مع الجيش في حربه على المجاميع الارهابية المسلحة وأن اتفاق الصخيرات لن يمر دون وضع شروط تنهي دعم وتمويل هذه المجاميع وأن أي اتفاق لن يمر بدون الاعتراف بالمعركة في بنغازي وتحميل المسؤولية لمن وقف داعمًا للإرهاب، لينتهي اللقاء وخاطبني صالح إذا كنت أحتاج لأي مساعدة يستطيع توفيرها لي فقلت له: شكرًا جزيلًا نحن هنا لكي نوصل لك هذه الرسالة فقط، خرجنا بعد التقاط صورة معه و وضعت مساء ذلك اليوم أدراج على صفحتي بموقع فيسبوك حول الذي جري في هذا اللقاء، عدت لشقتي وبرفقتي أحد الرفاق الذي كان معي باللقاء وباليوم التالي اتصل صباحًا شخص من مكتب عقيلة صالح بالرفيق الذي معي ليبلغه بأنهم قاموا بإعطاء مستشار صالح والذي كان ضمن مجموعتنا مبلغ مالي من عملة “الدولار” وقالوا إنه عاد إليهم بعد خروجنا وطلب المبلغ كمساعدة تقدم لنا، انفجرت غاضبًا في ذلك الصباح كيف يقوم بهذه الفعلة ومن اعطاه حق طلب هذا المبلغ باسمي ويقوم بسرقته ما هذا الفعل المشين وهل وصل للاسترزاق لهذه الدرجة، حاولت الاتصال به لأجده مُغلقًا هواتفه ومغادر القاهرة باتجاه ليبيا، أصابني الإحباط وسألت نفسي ومن معي “هل يعقل نحن رافعين قضية بهذا الحجم ونعمل بحماس لأجل نصرتها وآخرون يتاجرون يسترزقون باسمها بهذا الشكل”، هذا الموقف المحرج جعلني أتوخى الحذر جيدًا وعرفت من خلاله أن العديد من السياسيين والناشطين والاعلاميين لا تعني لهم القضية إلا كونها مادة للربح والمتاجرة وأن الثمن الباهض يدفعه فقط الشباب البسطاء والجنود البواسل في محاور القتال والاهالي الذين هجروا ونزحوا من منازلهم والمآسي الأخرى التي يدفعها أهل بنغازي في سبيل انهاء المعركة، قررت العودة لبنغازي لأجهز نفسي للسفر لباريس وكانت العودة لباريس تتطلب قرار ومخاطبة حكومية للسفارة الليبية هناك تمكنني من استكمال علاجي، لأجد نفسي مُتنقلاً بين مدينة بنغازي والبيضاء محاولًا استخراج قرار يمكنني من الخروج دون جدوي رغم هذا لم أتوجه لأي مسؤول فاجتهدت بنفسي ومعي الخيرين والرفاق الأوفياء وبعد محاولات عديدة تحصلت على قرار بالعلاج في ساحة البولندية فالسفارة هناك لازالت تعترف بالحكومة الليبية تابعة لمجلس النواب، ومن هنا بداء التجهيز للسفر والخروج، وفي عقلي بأن الخروج لن تكون من بعده عودة، توفيت جدتي والدة والدتي في شهر يونيو من نفس العام، وبقيت في بنغازي لكي أودع كل شيء بها شوارعها وميادينها ومناطقها وساحاتها وشواطئها وأهلها الطيبين، حاولت خلال آخر شهور لي في بنغازي جمع الرفاق من النشطاء الفاعلين ببيتي لنتفق على نقاط وخطوط اساسية تجمعنا فحجم الخلافات التي بيننا أصبحت تتوسع وتكبر لتستمر هذه الجلسات دون نتيجة وانتهت بعد أن قررت المغادرة في الأول من أغسطس عام 2016 ومعي الرفيق “السنوسي بوجناح” ودعنا رفاقنا وأهلنا ونجحنا في تجميع مبلغ مالي يؤمن لنا مصاريف محطاتنا المهمة للوصول لبولندا، السنوسي أقترح على الذهاب لألمانيا مباشرةً وننتهي ولكنني كنت أرد عليه “لا” خلينا نستكمل العلاج في وارسو يمكن الاوضاع تتحسن ونرجع لليبيا ففكرة الخروج وعدم العودة في عقلي غير ثابته ولكن قلبي كان ينبض بالعودة، طارت الطائرة ظهرًا من مطار الأبرق إلى مطار قرطاج وعندما بدأت ترتفع لتغادر الأرض نحو السماء دق قلبي ونزلت دموعي ومشهد تلك المزارع الشهباء والخضراء لازال في ذاكرتي وتلك النظرة التي نظرتها لسنوسي وهو الآخر الدموع تغمر عيناه، وصلنا لتونس أول محطة في رحلتنا توجهنا لدي أحد الاصدقاء للإقامة لديه في منزله المستأجر، قمنا بإنهاء الاجراءات بمكتب التأشيرات على أمل خروج الفيزا في أسرع وقت بعد أيام تم إرجاع مستندات صديقي السنوسي وعرفت أني في باقي المحطات سأكون وحيدًا، السنوسي كرر لي “المهم توصل أنت غادي والباقي ساهل” مضت عشرون يومًا على أقامتنا في تونس وطوال هذه الاقامة لم يتردد بعض المُهرجين الذين كانوا يصفون أنفسهم بنشطاء الجيش في إخراج الكذب عني و روجوا اشاعة مفادها بأني بعت قضية بنغازي وأن تواجدي في تونس هو للتآمر على الجيش ومعركته ضد المجاميع الارهابية ولم أهتم بهم فحجم الالام كانت تتضاعف بداخلي والقضية أكبر بكثير من سطحيتهم وسطحية مأموريهم، وصلني بريد من مكتب التأشيرات يفيد بأن التأشيرة جاهزة ذهبت لاستلام جواز السفر ومن هناك قررت البداء في مراحل الخروج من تونس نحو المحطة الأخرى، ابلغت والدتي و والدي عبر الهاتف بأنني سوف اغادر وقد لا أعود من جديد لبنغازي وقد يطول اللقاء بهم مرة أخرى وهذا للعلم وأنهيت المكالمة سريعًا، لاكتشف بأن لا يوجد مبلغ مالي كبير يغطى ثمن التذاكر ومصاريف السفر من تونس إلى باريس من ثم وارسو اتصلت بصديق ورفيق عزيز يقيم في بنغازي وطلبت منه بأن يحجز لي تذكرة سفر ذهابًا وعودةً، غادرت صباح يوم السابع من سبتمبر تونس لتهبط الطائرة في مطار شارلي ديغول بقيت اربع ساعات ومن ثم انتقلت لطائرة لتقلع نحو عاصمة بولندا وارسو، وجدت في استقبالي أحد أفراد الملحق العسكري بعد تنسيق مسبق معه والقنصل والمساعد الإداري بالسفارة انتقلوا بي باتجاه الفندق لأقضي تلك الليلة هناك، لتأتي اجازة عيد الاضحى وفي ثاني أيام العيد تم نقلي لمدينة وودج لأدخل المستشفى العسكري هناك، ليتبين بعد اجراء الكشوفات الاولية بأن هناك التهاب حاد بمنطقة الورك والتدخل الجراحي يجب أن يكون عاجلًا لإزالة المفصل التجريبي الذي تمت زراعته قبل عام ونصف بباريس، جهزت نفسي للعملية وفي مدينة وودج لم يكن معي أحد في المستشفى والمدينة التي تم وضعي بها هناك عن طريق سائق الملحق الصحي بالسفارة وبعد إجراء العملية بيومين زارني عضو المكتب العسكري والملحق الثقافي بالسفارة والقنصل والمساعد الإداري للاطمئنان على صحتي وغادروا وقاموا بتكليف شاب من اليمن يوفر لي ما أحتاج إليه من طعام حلال وغيره من مستلزمات كان شابًا وفيًا ومخلصًا وأمينًا، بعد اجراء العملية أصبحت بدون مفصل صناعي ونصح الأطباء بأن تبقي المنطقة خالية من الزراعة حتي تنتهي الالتهابات لتتم عملية زراعة مفصل جديد في وقت لاحق، عدت للعاصمة وارسو على أمل انتهاء العلاج لاتخذ قراري اتجاه المستقبل وأنهي الصراع الذي كان بين قلبي وعقلي القلب نبضاته توجهني نحو العودة إلى ليبيا والعقل في تفكيره يوجهني نحو اللا عودة، قررت السفر لبرلين لرؤيتها بعد أن قام الملحق الصحي بأغلاق ملفي وطلب مني مغادرة بولندا بعد مضي أسابيع من إجرائي للعملية استجبت وقررت المغادرة واثناء وصولي لحدود تم اعتقالي من قبل حرس الحدود البولندي الذي طلب مني مغادرة بولندا لانتهاء صلاحية التأشيرة ولكنني أبلغتهم بأنني تقدمت بطلب إقامة علاجية في بولندا وكنت أعتقد من خلال هذا الطلب التنقل داخل دول الاتحاد الأوربي ليطلقوا سراحي طالبين مني البقاء في بولندا حتي تصدر بطاقة الإقامة، بعد إطلاق سراحي من نقطة الاحتجاز بمطار مدينة بوزنان حجزت تذكرة طيران للعودة لوارسو أصبحت انتظر موعد الطائرة وشاع خبر اعتقالي بين الوسط المدني والسياسي الأمر الذي جعل الراحل “محمود جبريل” يقوم بمجموعة اتصالات مع وزراء الخارجية والداخلية البولنديين السابقين ولكن الاحتجاز لم يستمر طويلًا، هاتفي كان مفرغ من الشحن بعد مصادرته من حرس الحدود وارجاعه لي ولم اتحصل على مكان لشحنه فالمحال مغلقة وساعة كانت الرابعة صباحًا، واثناء دخولي لدورة المياه اكتشفت بوجود بقعة دم كبيرة في منطقة الحوض قمت بإزالة ملابسي لاكتشف نزيف مصدره مكان الجرح الأخير للعملية قمت بوضع أوراق الحمام بين الجرح والملابس فموعد الطائرة قريب والحقيبة التي بها المواد الطبية سلمتها ليتم شحنها بالطائرة ولابد من الوصول لوارسو لا يوجد لدي تأمين طبي وأنا لا أتحدث البولندية، وعند خروجي من دورة المياه وجدت مسافرًا لديه شحن خارجي طلبت منه تزويد هاتفي بالشحن لا تمكن من إجراء اتصالات أهمها بالملحق الثقافي الذي كان متعاونًا ومتضامنًا معي كثيرًا لأبلغه أنني في الطريق لوارسو وأن جسدي ينزف دمًا، شجع قدومي لوارسو طالما أن النزيف ليس حادًا وأنني أستطيع السفر ، قام الموظفون بالمطار بنقلي للطائرة ولاحظوا بقع الدم في ملابسي تحدثوا معي ليتم إعادتي للمطار فطلبت من المضيفة بالطائرة وكانت تتحدث الإنجليزية بضرورة سفري للعاصمة وارسو فأنا أتبع السفارة الليبية وهناك سيتم علاجي وأنني قادر على السفر فالنزيف بطئ لتوافق المضيفة وقامت بتغطية الكرسي كي أجلس عليه وأقلعت الطائرة نحو وارسو وصلت صباحًا ولم أجد شخص في استقبالي اوقفت تكسي وطلبت منه التوجه لأقرب فندق في وسط المدينة، وصلت للفندق حجزت الغرفة وصعدت إليها دخلت فورًا للاستحمام لاكتشف وجود فتحة عميقة يخرج منها كم من الافرازات ودماء فتحت أحدي الحقائب لأخرج بعض المواد الطبية لأضعها لتوقف النزيف، وضعت هاتفي بالشحن وذهبت في رحلة مع النوم طويلة حتي استيقظت مساءً لأجد الملحق الثقافي في انتظاري بالاستقبال وأبلغته بمستجدات حالتي وأبلغني بأنه أبلغ الملحق الصحي الذي كان يصر على عدم قدرته على الصرف ولابد من ارسال تفويض بمبلغ مالي كبير من ليبيا لتغطية العلاج وبطريقة أخرى طلب بأن أقوم بالتواصل مع إي جهة مسؤولة تضمن له مدة تمديد جديدة لا تمكن من استكمال علاجي بدون وجود تفويض كانت عملية أشبه بالمساومة المهينة والغير أخلاقية لم أخضع لها، رغم تواصل العديد من الشخصيات البارزة معي أبرزهم عضو المجلس الرئاسي آنذاك الدكتور “فتحي المجبري” إلا أنني طلبت فقط لملمت هذا الجرح الجديد ولا أرغب في استمرار العلاج هنا ولا أحد يجعلني مادة للمتاجرة والسمسرة فمن يستطيع معالجتي بدون مقابل وفي هدوء وبطريقة إنسانية أن أقبل هذا غيره فأنا لا أقبل ولا داعي للعلاج فقط أريد الخروج من هنا بطريقة قانونية، ذهبنا صباح ثاني يوم لمدينة وودج ودخلنا المستشفى وحضر الدكتور المشرف عن الحالة وشعرت بأن هناك ربكة في الترجمة بين الذين معي وبين الطبيب، لنكتشف أن التقرير الملخص الذي قام الملحق الصحي بإعطائه لي مزور ولم يطلب الدكتور أبدًا مغادرتي لبولندا بل طلب ضرورة المراجعة بعد اسابيع لاستكمال التنظيف من خلال عملية جراحية أخرى دخلت المستشفى ولم أهتم بالأمر فالمهم لدي هو اجراء التنظف النهائي، أجريت العملية في اليوم التالي وبقيت في المستشفى لمدة أسبوع وخرجت لأقيم في وارسو أربعة أشهر تكفل المحلق الصحي بتغطية مصاريفها بعد ضغط مارسوه الاوفياء من كادر السفارة أبرزهم الملحق الثقافي وعضو الملحق العسكري والمساعد الإداري الذين كانوا رجالًا مخلصين وصادقين وُمحبين لأبناء وطنهم، صدرت بطاقة الاقامة وقررت المغادرة نحو برلين بعد تواصل طويل مع الراحل “توفيق بن جميعة” أحد الشخصيات الوطنية والمخلصة التي عرفها أهل مدينة بنغازي، وصلت لمحطة برلين ونزلت لدي بن جميعة في بيته قضيت لديه أيام أعجبت من خلالها بولاية برلين وألمانيا، رجعت لوارسو لجمع باقي ملابسي وأنهي كل الالتزامات بها، لأعود مجددًا لبرلين قلبي ينبض بالعودة لليبيا وعقلي يقول لي أنها ألمانيا بلد الحريات والتعايش أنها برلين تاريخ انتهاء الحرب وبداية السلام قبلة المضطهدين، قررت الذهاب لرؤية الملحق الصحي تابع للسفارة الليبية في مدينة بون بولاية شمال الراين وصلت للمقر فتح لي موظف الابواب دخلت قابلني موظف آخر شرحت له الموقف وحالتي وأني احتاج لعلاج طويل الأمد وأنني أحد ضحايا الإرهاب المُدان من قبل الإنسانية أجمع ليرد على “والله ما نقدر ندير معاك شيء جيب تفويض مالي وحاضر”، خرجت من المكتب الصحي تناولت وجبة الغداء في بون وتجولت في شوارعها حائرًا ماذا أفعل لدي إقامة تمكنني من العودة لليبيا والرجوع لأوروبا ولكن السلطة الفعلية كانت لدي سلطة الصخيرات وقبول تفويضًا ماليًا منها لن يأتي إلا على حساب المتاجرة بي فأغلب وكلاء هذه السلطة كانوا يستخدمون في جرحي والمصابين والمرضي أدوات لتبييض أنفسهم رددت بيني وبين نفسي لا ولا، لينتصر عقلي على نبضات قلبي الذي قال لي أثناء التفكير تقدم بطلب اللجوء والحماية لسلطة هذه البلاد التي سوف تعاملك كإنسان وتعطيك حقك فأنت دافعت عن الإنسانية في بلدك وهم يقدرون ذلك وسيتحملون مصيرك وحمايتك، وفي يوم 15مايو من عام 2017 الذي صادف احتفالات ذكري انطلاق عملية الكرامة حيث كان الانتهازيون يجلسون في المنصة يشاهدون عرضًا عسكريًا أقيم بالكلية العسكرية توكرة، تقدمت للسلطات الألمانية بطلب الحماية الدولية وفق اتفاقية جنيف لحماية اللاجئين والمتضررين والمضطهدين، تم نقلي بناءً على الطلب لإقليم سكسونيا خضعت للإجراءات الأولية ومن ثم أتي موعد المحكمة التي سوف تُفصل في الطلب المقدم للحماية دخلت بعد الظهيرة على القاضي وخرجت في وقت متأخر باليل عاد بي المترجم بسيارته لمكان إقامتي والذي به عشرات اللاجئين، القاضي اثناء التحقيق كان ينظر لي بتمعن وعندما كنت أعرض له الصور التي قمت بطبعتها لأشرح له ماذا حدث كانت الدموع تغمر عيناه كان يلتفت خلفه لمسحها ويرجع ليقول لي اكمل، وعند الانتهاء من التحقيقات طلب القاضي من المترجم العودة بي لمقر إقامتي واعطاه رقم هاتفه وقال له أريده يتصل بي متي أراد في إي أمر يتعلق بحياته هنا و أنا مستعد لخدمته فهوا شجاع وأنا أقدره، قال لي المترجم في سيارة بأنه ولأول مرة قاضي يتجاوز العرف المتعارف عليه ويعطى رقمه الخاص للاجئ ليخدمه فيما يتعلق بحياته هنا، وبعد شهور طالبت السلطات البولندية بنقلي إليها ومُعترفة بحقي في العيش لديها تم اسقاط طلب السلطات البولندية من خلال طعن قُدم عن طريق محامي خاص وقبلت السلطة الاتحادية الألمانية طلبي والاعتراف بي كلاجئ لديها لتتعهد من خلال هذا الاعتراف بحماتي وتوفير الحياة الكريمة لي وكل ما أحتاجه دون إي مقابل تقديرًا لما قدمته لأجل الإنسان في بلدي وأحياء وتجديد روح المسؤولية في قبلي، جعلوني أشعر بن خذلان المتصارعين والمتحاربين في ليبيا لن ينقص من قيمتي وحقي في الحياة ودفاع عن افكاري، وفق دستورها الذي ينص على التزام ألمانيا في تعزيز السلام العالمي وحماية الإنسان، وكأنهم كانوا يقولون لي أنت لن تكون عرضة للمساومة فلتنطلق بحرية فوق هذه الأرض ودافع كما تريد عن وطنك وأهلك وعن الأنسان في بلادنا كذلك فأنت شريكًا مع شعبنا والمقيمين معنا في تقرير المصير وعليك أن تثبت جدارتك لتكون جزءً بعد سنوات من الشعب الألماني، انتقلت بعد عامين أقمت فيهن بولاية سكسونيا إلى برلين لأستقر بها برلين تعبر حقيقتًا عن الحياة والتعايش والمحبة عن المسرح والفن وعن تاريخ الحرب والسلام عن الانقسام والوحدة عن الحب، عندما اتجول بها أشعر بأنني منها أحببتها وأحببت ركوب قطاراتها الصفراء بأسفل الأرض والحمراء فوقها اجلس جنب نوافذها أشاهد الناس بداخلها وأتأثر برؤية إنسانية العابرين فيها وتحركات اليسار السياسي في ساحات بلديتها وكفاح شعبها العامل في كل المجالات، ورغم الحياة في برلين ولكني عندما أضع رأسي لكي أنام في كل ليلة تحضر بلدي في ذهني لتُغيب عني النوم لساعات وأستوعب أنني هنا ولا مجال للعودة الآن، وعندما أخرج للشارع في كل صباح أتخيل بأنني أمشي بحرية في شوارع بنغازي وأجلس بين شبابها معتزًا بهم، إلجاء باستمرار لسماع أخبار البلد وماذا فعلوا بها المتصارعين، نشطنا كثيرًا في ألمانيا لأجلها ولازلنا نرفع في شعار الوعي والمضي نحو المستقبل نحو الحرية والاستقلال.

لقد تجاوزت المصاعب بقوة إيماني بعدالة القضية وتضامن المحبين والمتعاطفين المخلصين، لن أنسي أبدًا الوفاء والإخلاص الذي تحصلت عليه من أُناس كثر في هذه المحنة والظرف المريرة، كي أقف اليوم منتصرًا على من أراد قتلي ذات يومًا غدرًا بوضع وضعت العبوة لتنفجر وتلحق الضرر بي، انتصرت بنغازي في جولات عديدة وسوف تنتصر مجددًا لحريتها ومستقبلها، لقد كان طريق الحرية ومازال مليئًا بالتحديات، ويجب علينا أن نُلهم الجيل الناشئ والذي يليه بقصصنا وتجاربنا ليتواصلوا في العطاء والكفاح لأجل مستقبلهم ومستقبل بلادهم واسترداد أرضهم ونضال لأجل حريتهم.

وإن طال الغياب سنعود يومًا، وإن طال الفراق سنلتقي يومًا، وإن طال السفر سنتوقف في محطتنا الأخيرة، وها هي الطريق تكتب عن أحد العابرين فيها نحو الحرية، إلى لقاء في قراءة كاملة وتفصيلية لطريق الحرية ومحطاتها المتعددة والطويلة ستقدم لكم قريبًا..

“اغتيال على طريق الحرية … من بنغازي إلى برلين .. 7”

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى