كتَـــــاب الموقع

(اغتيال على طريق الحرية .. الثورة .. 3)

الثورة

عبدالله الغرياني

لم تنته معاناة الشعب الليبي في جميع جوانب الحياة ولم يتعامل غالبية الشعب والشباب بجدية مع الوعود الاصلاحية المعلن عنها ضمن مشروع ليبيا الغد من تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، المشروع الذي انخرط في الدعاية له العديد من النُخب السياسية والحقوقية والاعلامية المعروفين بالإصلاحيين الذين أكدوا عبر الفضائيات والصحف بأن مشروع الغد يمثل فرصة حقيقية للإصلاح واصطفوا مع “سيف القذافي” قائد المشروع وحلفائه الرئيسيين قيادات فرع تنظيم الإخوان المسلمين بليبيا وارتضوا جميعهم بالخطوط الحمراء التي وضعها “سيف القذافي” أمامهم وأصبحوا منظومة متكاملة صحفية وحقوقية تمارس التزييف وتجميل مشروع التوريث.

وامتدت موجة ليبيا الغد لتصل للمعارضين الليبيين بالخارج وافتتح عدد منهم خطوط للتواصل مع النظام للعودة والصعود لمركب الغد وهناك عدد رجع لليبيا بالفعل وتنازل عن موقف المعارضة الهادف لإسقاط القذافي وبرروا عودتهم بأن الإصلاح قد أتى ولا يهم بقاء ليبيا رهينة للقذافي الأب ومن بعده الابن، وكانت هذه المواقف والاصطفافات سقوط وطني وأخلاقي أمام الليبيين بالداخل والخارج الذين ناضلوا وكافحوا لرسم نهاية لهذا النظام واسقاطه، وفي المقابل بقيت العديد من الشخصيات الوطنية ثابتة على الموقف ولم يغريها زيف الإصلاح ورفضوا إن يكونوا أدوات لخلق دكتاتور جديد يحكم الليبيين، وبقي الشعب الليبي يدفع ثمن زيف مشروع الغد والدعاية الإصلاحيين والإسلاميين والثوريين الموالين لمعمر القذافي لسيف القذافي.

وتأسست لوبيات الفساد المالي من شخصيات ليبيا الغد والذين سيطروا على مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الليبية للاستثمار، واُنشئت مؤسسات وهيئات وقنوات إعلامية تولي قيادتها شخصيات من فرع التنظيم الدولي لجامعة الإخوان المسلمين لتبييض سيف القذافي والتسويق لمشروعه حتى وصل الأمر بإخراج وثائقي قام بتقديمه “سليمان دوغة” يسوق للعدالة الزائفة التي يدعيها مشروع الغد ومن ضمن المتحدثين في الوثائقي شخصيات قيادية من الإخوان المسلمين والاصلاحيين، وأمام كل هذه العوامل أصبحت فرصة التغيير الشامل تنتهي بإسقاط النظام ضئيلة وتكاد منعدمه وظل الليبيون يعانون بين قمع أدوات القذافي الأب وزيف أدوات القذافي الابن.

البحث عن مناخ معارض ظل في داخلي ولم يكن أمامي إلا الاستمرار في الاطلاع على جديد المعارضة الليبية بالخارج والاستماع عبر البالتوك لجلسات أحاول من خلالها تثبيت وتقوية موقفي في وقت كان المناخ العام يتجه نحو قبول التوريث مع سُحب رعدية رافضة له كونه خديعة وزيف، الإسلاميين بمختلف توجهاتهم توسطوا لإخراج عدد من عناصرهم المسجونين بالسجون وحسموا موقفهم نحو إقامة تطبيع كامل للعلاقات مع النظام والإصلاحيين قفزوا كذلك في المركب ليحققوا بعض المكاسب الشخصية، والمعارضة طالها الانقسام الذي عمق صراعها الداخلي، وظلت عمليات القمع والاعتقالات مستمرة بحق كل من يتجاوز الخطوط الحمراء، قتل الصحافي ضيف الغزال بطريقة بشعة حيث تم قطع أصابع يده وطعنه وإطلاق الرصاص على جسده ورمي جثته بمنطقة قنفودة بسبب إعلانه الانسحاب من صحيفة الزحف الأخضر التي تصدر عن اللجان الثورية وكتابته لمقالات في صحافية أخرى انتقد من خلالها حركة اللجان الثورية وفسادها، وكذلك عملية اعتقال جماعية استهدفت 10 صحافيين من بينهم 4 صحافيات تابعين “ليبيا برس” احدى الواجهات الاعلامية لمشروع الغد.

ولم يكن هناك خيارات إلا الثبات على الموقف المعارض وبعد النجاح في مرحلة التعليم الثانوي، دخلت لجامعة بنغازي ونُسبت لكلية العلوم التي لم أكن أرغب في الدراسة بها ولكنني دفعت ثمن اختياري لتخصص الثانوي علوم الحياة كون بعد نجاحي في المرحلة الإعدادية تم تغيير الدارسة الثانوية للتخصصية ودراسة علوم الحياة كانت تلزم الطالب بالتوجه لخيارين إما لدراسة الطب أو العلوم، قررت خوض رحلة تعلم العلوم وأثناء بداية الدراسة وجدت أمامي ثلاث هيئات تمثل الطلبة موالية لمعمر القذافي “الرابطة الطلابية، مثابة فريق العمل الثوري، الاتحاد العام لطلبة الكلية” حركات غوغائية تدين بالولاء للقائد وتنشر ثقافة تقديسه بين الطبلة عبر مناشطها المتعددة، مع تتبع الطلبة الذين قد تكون لهم توجهات سياسية متعارضة مع التوجه الثوري الواحد الذي يحكم به القذافي الشعب.

لم يكن هناك مجال للممارسة عمل سياسي داخل الجامعة يكون امتداد للعمل الذي حدث في أواخر عقد السبعينيات من القرن الماضي، الوعي شبه منعدم والخوف هو السائد والفكر الجماهيري مقرر من المقررات الدراسية، تم استقبالنا في جامعة بمدرج الانتفاضة بكلية العلوم لمدة أسبوع يسمي بالأسبوع الثقافي يتم من خلاله تعريفنا بقوانين الجامعة ومن بعد ذلك جلسات أعطاها لنا أعضاء الاجسام الثورية حول خطورة الزندقة والكلاب الضالة وشرح عن السلطة الشعبية والنظرية العالمية الثالثة بحضور إلزامي من خلال كشف يتم التوقيع به ليتم التأكد أن الطالب حضر المحاضرات كافة محاولين محاصرة الأفكار السياسية التي قد يحملها الطلبة واستمرار تغييب وعي الآخرين الذي لا وعي سياسي لديهم ولا حتى اهتمام بمستقبل بلادهم السياسي ومصيره في ظل حكم نظام القذافي وأدواته القمعية.

وأثناء إصابتي باليأس في التغيير أتت الاشارة من تونس واندلعت الاحتجاجات هناك بعد أن قام محمد البوعزيزي بإضرام النيران في جسده بسبب سوء الأوضاع المعيشية لينطلق ربيع تونس مبكراً في 17 ديسمبر عام 2010 وتنطلق الاحتجاجات والمظاهرات بهتاف (الشعب يريد اسقاط النظام) نظام زين الدين بن علي وأدواته القمعية التي حكمت تونس لأكثر من عقدين وانتهت بهروبه خارجها رفقة زوجته ليلى الطرابلسي في 14 يناير 2011 ونال الشعب التونسي حريته بعد نضال مدني وسلمي تسجد في تظاهرات والاعتصامات والعصيان دفع خلالها العديد من التوانسة أرواحهم لإنهاء نظام بن علي وانطلق الربيع من تونس لهبط لدى الجارة مصر في 25 يناير 2011 مستهدفاً نظام “حسني مبارك” الذي حكم مصر هو الآخر لثلاثة عقود ونيف بقانون الطوارئ الذي بسببه قُتل المدون خالد سعيد وقمع المئات من المصريين وزج بعدد كبير منهم في سجون طوال عهد حكم مبارك وحزبه وأسباب أخرى وجد المصريون الفرصة لينطلقوا من خلالها ليطالبوا بالحرية والخلاص.

وكانت الأحداث دامية وشهدت محطات متعددة انتهت جميعها بتتويج المصريين بخطاب اللواء عمر سليمان الذي أعلن من خلاله عن تنحى مبارك عن الحكم في 11 فبراير 2011، وأصبح الربيع يحاصر بلادنا ليبيا من الشرق والغرب ولا أحد يعلم من سيعلن فتح الأبواب أمام هذا الربيع ليدخل ليبيا، ومرت أيام على سقوط مبارك، حتى أصبحت خيمة القذافي تستقبل وفوداً من القبائل والمجاميع النقابية والفنانين والمحامين وحلفاء أبنه سيف الإسلام الإسلاميين والإصلاحيين وكذلك حضور ممثلين عن روابط شهداء مجزرة سجن أبوسليم وأحداث 17 فبراير 2006 لاستشعار الخيمة بأن الخطر أصبح يهددها ولابد لها أن تؤكد على ولاء هؤلاء لها، لتنفرد بعدك ذلك في تعامل مع الشعب الذي قد يخرج ليثور بالحديد والنار، وخصوصاً بعد الخروج الشعبي في 13 يناير 2011 للاستيلاء على الوحدات السكنية التي تعطل تسليمها وإنجازها وتم التعامل مع هذا الخروج وإنهاؤه خلال أيام، ولكن تم تحديد الموعد من جديد عبر صفحات التواصل الاجتماعي وأسست شخصيًا صفحة لمحاولة التأكيد على الموعد في يوم (11 فبراير 2011) باسم “17 فبراير يوم الليبيين الأحرار” على فيس بوك ودونت بها أول منشور في يوم 13 فبراير وأصبح تاريخ 17 فبراير الذي يصادف الذكرى الخامسة للانتفاضة الأولى في عام 2006 حديث الشارع والجميع ينتظره للخروج.

أرسل النظام وفداً حكومياً وأمنياً للوقوف على مدينة بنغازي التي يعرف جيداً أنها ستكون مهدًا للانتفاضة فبنغازي تُعرف بأم الانتفاضات والتمرد، وصل هذا الوفد إلى المدينة وفورًا قاموا بتجميع الموالين للنظام بالمؤسسات الحكومية واللجان والحرس الثوري وبقية الأدوات القمعية الأخرى، وعقدوا معهم لقاءات عدة محاولين التخفيف من مستوى الأصوات الغاضبة التي بدأت تتعالى وتنتظر في يوم 17 فبراير وامتصاص التفاعل الذي تعيشه المدينة مع الشعوب الجارة التي عانقت الربيع العربي وازاحت الانظمة القمعية التي تحكمها، الوفد كان بقيادة أبرز رجالات القذافي وأدواته القمعية من بينهم “الساعدي معمر القذافي وعبدالله السنوسي والطيب الصافي والبغدادي المحمودي وعمر أشكال وفرحات بن قدارة” وشخصيات أخرى مُوثق حضورها في التسجيلات الصوتية المسربة من هاتف “الطيب الصافي” وبعض التسجيلات المرئية ولم يمضوا في المدينة كثيرًا حتي أتي يوم الثلاثاء 15 فبراير 2011 ومن هذا اليوم أصبحت ملامح الثورة تتضح حيث خرجت وقفة بجوار مديرية أمن بنغازي لعدد من أسر ضحايا سجن أبوسليم مطالبين بالإفراج على أحد محاميين الأسر.

ولم يكن لدي غالبية سكان وشباب المدينة علم بالوقفة والتي لم يعلن عنها بشكل مباشر عبر المواقع، حتى شاهدت في تمام الساعة الثانية فجر يوم الاربعاء على قناة الجزيرة خبر وتقرير عن الوقفة ومداخلة للمرحوم “إدريس المسماري” التي شعرت من خلالها بأنها الإشارة أو النقطة التي يمكن الانطلاق منها، خرجت للشرفة لرؤية ماذا يحدث في الشارع فوجدت تجمع لعناصر اللجان الثورية والحرس الثوري أمام مقر مثابة البركة التي تقع بجوار المنزل وكذلك تشديد أمني أمام مقر كتيبة الفضيل أبو عمر، لم أنم في تلك الليلة وذهبت باكرًا للجامعة لتجديد القيد الدراسي أنهيت الأمر سريعًا، وكانت الاجواء غامضة وغير طبيعية داخل الجامعة وفي شوارع المدينة، ركبت المواصلات العامة واتجهت لوسط المدينة نزلت بالقرب من ميدان الشجرة لفت انتباهي مباشرةً أشخاص يقومون بإزالة صورة للقذافي وكان جزء منها محترق ويضعون أخرى بديلة لها، جلست بمقهى قريب من موقع الحدث ولا حديث في المكان عن أحداث مساء الثلاثاء، قررت العودة للمنزل حتى خرجت مجدداً بعد الغروب لشارع الاستقلال “جمال عبدالناصر”.

ووقفت أمام إحدى العمارات بالشارع ولم تمضى دقائق حتى شاهدت مجموعة صغيرة من شباب على بعد أمتار يهتفون “الشعب يريد اسقاط النظام” خلف فندق تبستي التحقت بهم وعلى الفور وجدنا أنفسنا في مواجهة مع الدوريات الأمنية التي اطلقت الرصاص الحي في الهواء ونجحت في تفريق التظاهرة كونها صغيرة، وعدت سريعاً للمنزل وفي صباح الباكر يوم الخميس 17 فبراير كتبت تدوينة أن “التجمع سيكون في نفس المكان بشارع الاستقلال “جمال عبدالناصر” والحضور للشباب ورجال فقط لاحتمالية وقوع مواجهات مع الأمن مثل الليلة السابقة”، تجولت رفقة أخي مبكًا في المدينة لا وجود أي تظاهرات فقط انتشار وتشديد أمني، واصلنا تجولنا وتناولنا الإفطار في أحد المطاعم الشعبية وقررنا الذهاب لوسط المدينة وأثناء وصولنا أمام فندق تبستي وجدنا حشدًا كبيرًا لأشخاص موالين للقذافي يرتدون قبعات صفراء يهتفون وبشكل هستيري لمعمر القذافي وتصفية الخونة والمرتدين عنه، واصلنا سيرنا بسيارة لوسط المدينة التي لم نتمكن من الدخول إليها حتى اضطررنا إلى إيقاف السيارة بالموقف الخلفي لمبنى جمعية الدعوة الإسلامية.

وأثناء نزولنا وتوجهنا نحو شارع “عبدالمنعم رياض” وجدنا فوج من شباب يركض باتجاهنا يهتفون بالشعب يريد اسقاط النظام يلاحقهم أصحاب القبعات الصفراء وسيارات الدعم المركزي التي كانت ترشهم بالمياه الساخنة، عدنا معهم حتى وصلنا للسيارة من جديد واتجهنا لمنطقة البركة وكان الاستنفار الأمني رهيبًا وحالة من التخبط بين الشباب الذين أعداد منهم تزاحموا على المصارف لورود شائعات بأنها سوف تُقرض لهم مبالغ مالية والأعداد الأخرى تترقب وتنتظر الخروج، مع سيطرة الغرفة التي شكلها الوفد المكلف من القذافي لقمع التظاهرات على قلب المدينة لا وجود للاحتجاجات من بعد ظهر يوم الخميس باستثناء وقفة قام بها الاسلاميين والاخوان المسلمين الموالين لمشروع الغد من المحامين أمام محكمة شمال بنغازي يهتفون بمطالب “دستور وحرية وعدالة اجتماعية”.

وكان هدف الوقفة هو تمييع الهتاف الذي تم المطالبة به في ليلة يوم الثلاثاء بميدان الشجرة والأربعاء بشارع جمال عبدالناصر وظهر يوم الخميس بشارع عمر بن عاص وعبدالمنعم رياض “الشعب يريد إسقاط النظام” والذي يؤكد هدف هذه الوقفة هو خروج أحد الإصلاحيين الذين نظموها في يوم الأربعاء 16 فبراير عبر قناة الجزيرة منددًا بالتظاهرات المطالبة بإسقاط النظام واعتبرها محاولة لإجهاض مشروع الغد، وعند حضور عدد من المتظاهرين لهذه الوقفة بعد طردهم من وسط المدينة قاموا بالهتاف “الشعب يريد اسقاط النظام” رفضوا المحاميين هذا الهتاف وقالوا لهم نحن هنا نريد دستور وحرية وعدالة اجتماعية فقط، ولكن صوت المتظاهرين كان أعلى وانسحبوا المحامون من المكان إلا عدد قليل منهم بقي، وبالرجوع لتسريبات الطيب الصافي تأكد للجميع أن هذه الوقفة كان المراد منها تمييع مطلب الشعب المنادي بالتغيير الشامل واسقاط النظام واتضح أن الوقفة كانت بإيعاز من النظام وأكد الطيب الصافي ذلك لأحد المخبرين الذين كانوا يتواجدون حول الوقفة والذي كان يزود في الصافي بتطورات الوضع هناك وقال في مكالمة مسربة للمخبر عندما ارتفع مستوى الهتاف والمطالب بأنه اتصل بالمحامي “المهدي كشبور” أحد منظمين الوقفة وقال له إنه عاد إلى منزله وإن ما يحدث لا يمثلنا، وهؤلاء المحاميين كانوا قبل أيام من هذا اليوم لدي القذافي في خيمته بطرابلس.

تطورت الاحتجاجات بعد صلاة العصر، حيث خرجت المظاهرات في مناطق بعيدة عن وسط المدينة وفقدت الغرفة بوصلة اخمادها، فمن منطقة الماجوري بدأت مواجهة المتظاهرين مع قوى الأمن انتهت بحرق مثابة الماجوري، وفي الأثناء انقطع الإنترنت ظهرًا على بنغازي، وأصبح الالتحاق بالتظاهرات متاح ومن عدة مناطق ومن منطقة البركة ومن أمام عمارة الصفطية الشهيرة بدأت خطواتي للسير على طريق الحرية، هتفنا وبأعلى صوت “الشعب يريد إسقاط النظام” و”قولوا لمعمر وعياله بنغازي فيها رجاله” توجهنا بخطوات ثابتة لنقل التظاهرة نحو شارع جمال عبدالناصر وكان هدفنا إيقاف هذه التظاهرة في قلب المدينة التي كانت تسيطر عليها الغرفة وقوى الأمن والحرس الثوري رفقة مرتدي القبعات الصفراء وهم خليط من متطوعين موالين للقذافي وأعداد أخرى ينتمون لأدواته القمعية المتعددة، وأثناء سيرنا توقفنا أمام مسجد “العيساوي” الذي يقع بمنطقة “بوقعيقيص” حيث ارتفع أذان صلاة العشاء وقمنا بالصلاة على الطريق أمام المسجد.

واستمررنا في السير نحو شارع جمال عبدالناصر والشعب يقف يمين ويسار الشارع أعداد تلتحق بنا وأعداد بقت لتشاهد مسيرتنا مع أصوات زغاريد النساء تصدر من شبابيك المنازل، ومهما وصفت ذلك الشعور الذي شعرت به وقتها لن أصل لوضع يصفه، كان الهتاف ممزوج بالدموع والفرح والحماس لنيل الحرية أو الموت لأجلها، وعند عبورنا من جوار نادي النصر وتجاوزنا للكوبري الذي بجواره ودخولنا لشارع جمال عبدالناصر ظهر علينا تصاعد لدخان الإطارات المحترقة في منتصف الشارع ووجدنا مواجهة قائمة بين شباب منطقة سيدي حسين والقوات القمعية تقدمنا بخطى ثابته للالتحام بهؤلاء الشباب وقدنا ملحمةً مدينة سلمية ضد القمع محاولين فك الجدار الذي وضعوه لايقاف تقدمنا لوسط المدينة.

أصبحت أعدادنا تتضخم وقفت في أول الصفوف وما أن بدأت رشق الحجارة حتى بدأ إطلاق الرصاص الحي علينا وأصيب يميني أحد المتظاهرين في ساقه وقمنا بإسعافه و وضعه خلف العمارات المطلة على الشارع وعند رجوعي للتظاهرة وجدت مجموعة تحمل مصاب آخر اصيب برصاصة بمنطقة الكتف، كان شعور الغضب يرتفع إلى أعلى مستوياته وصوت زغاريد النساء يتحول بين الحين والآخر لصوت صريخ من هول الاصابات والرصاص الحي الذي يطلق علينا بكل بشاعة ودون رحمة، أصبت بحالة انهيار عصبي جعلتني أرفع أي شيء أجده أمامي وارميه باتجاه القمعيين، واستمرت المواجهة وأصبحت أكثر توخي للحذر والاحتماء وراء الجدران أصبح ضرورة كان صوت الرصاص أقوى من صوتنا وقوة الرصاص أقوى من الحجارة التي في أيادينا، وأعداد المصابين أصبحت ترتفع وقوى القمع تتقدم ونجحت في ارجاعنا إلى آخر الشارع من حيث أتينا وتوقفوا في تقدمهم وانسحبنا من المكان وتوقفنا بجوار نادي النصر.

رن هاتفي وكانت والدتي وأبلغتني أن المواجهات اندلعت أمام منزلنا بين المتظاهرين وجنود كتيبة الفضيل أبو عمر، ركضت مسرعاً لمنطقة البركة من حيث انطلقنا وهدفي الوصول للمنزل على امتداد شارع جمال عبدالناصر الذي ينتهي أمام أبواب كتيبة الفضيل بجوار منزلنا، وعند اقترابي من الكتيبة؛ وجدت عدد كبير من المتظاهرين يتواجهون مع جنود كتيبة الفضيل وفي هذه المواجهة سقط عدد من القتلى والجرحى ودمائهم كانت منتشرة في المكان انتهت الليلة بذهابي للمبيت في منزل جدتي لأمي بمنطقة الفويهات كون منزلنا وقع في نطاق التطويق الذي فرضه جنود الكتيبة، وفي صباح يوم الجمعة ذهبت مبكرًا مع خالي باتجاه منزلنا في البركة كانت الأجواء هادئة في بنغازي قام خالي بتشغيل إذاعة بنغازي المحلية التي كانت تنقل كلمة مباشرة للساعدي معمر القذافي حاول من خلالها احتواء الموقف وركز على حقوق نادي الأهلي بنغازي وحق شباب بنغازي المظلومين وإن والده معمر أرسله للإقامة في بنغازي لحل مشكلات شبابها وإنه جلب ملابسه للإقامة الدائمة محاولاً الاستهتار بسكان المدينة.

وصلنا للمنزل وكانت حالة الصدمة مرسومة في وجه أمي وبقية أسرتي بسبب المواجهات الدامية التي حدثت ليلة الخميس أمام المنزل بين المتظاهرين وبين جنود الكتيبة، لم أبق في المنزل كثيرًا حتى خرجت اركض نحو منزل صديقي منصور بومدين ومن منزل منصور أتى خاله وذهبنا سويًا باتجاه محكمة شمال بنغازي حيث سيتم تشييع جثامين المتظاهرين الذين سقطوا جراء المواجهات التي دارت مساء يوم الخميس، صعدنا للسيارة وأثناء توجهنا للمحكمة وجدنا وحدات عسكرية تابعة للشرطة العسكرية تتمركز في بدايات شارع جمال عبدالناصر وفي المفترقات المؤدية للمحكمة وتخيلت خلال مشاهدتي لهذه التمركزات بأن الجيش قرر الاصطفاف في صف الشعب وسوف يرتفع شعار “الجيش والشعب يد واحدة”.

لم نتمكن من الوصول للمحكمة واضطررنا لركن السيارة بجوار مصرف المركزي الذي يقع على بعد امتار من المحكمة، وقفنا بجوار المصرف وأتت مظاهرة حاشدة قادمة من المحكمة رافعين الجثامين على الأكتاف بهتافات الغضب التحقت بالمظاهرة وهتفنا للعسكريين الذين تمركزوا أمام مصرف ليبيا المركزي “الشعب والجيش يد وحدة”، وسرنا على امتداد شارع جمال عبدالناصر حيث تم قمعنا وقتل وجرح المتظاهرين ليلة الخميس.
وأثناء مرورنا تم اقتحام مثابة المدينة الثورية المعروفة بالمثابة الأم وإضرام نيران بها لتتحول الأفكار السوداء التي حكم بها القذافي الأجيال لأكثر من ثلاث عقود ونيف لرماد، استمرت التظاهرات بالسير نحو منطقة البركة وباتجاه مقبرة الهواري التي تبعد حوالي خمسة كيلو متر من منتصف المدينة، وعند مرورنا أمام كتيبة الفضيل أبوعمر اتخذ جنود الكتيبة وضعية الهجوم وأطلقوا الرصاص الحي رغم محاولتنا التهدئة لكي نعبر بسلام ونحافظ على الجثامين التي بيننا، عبرنا الكتيبة باتجاه الهواري وأتاني هاتف من أحد الأقارب يبلغني أن نعيم الغرياني أحد أقاربي سقط قتيلاً في تظاهرات الخميس، نعيم هو الشاب الوحيد لأسرته وكان لطيفًا جدًا في تعامله معي ومع كل من عرفه، فارق الحياة بعد تعرضه للضرب وإطلاق رصاصة عليه بمواجهات شارع جمال عبدالناصر من قبل القمعيين الموالين لمعمر القذافي، حاولت الوصول بشكل أسرع للمقبرة لحضور مراسم دفن نعيم مع الأقارب ولكني لم اتمكن لأننا كنا نسير على الأقدام.

وقبل وصولنا لمفترق مديرية أمن بنغازي كانت تلتحق بنا من كل منطقة مجموعات من سكانها، وعبرنا المديرية وكان هناك جمع للضباط داخل أسوارها وقوفوا ينظرون إلينا ونحن نهتف لهم “الشعب والشرطة يد واحدة” تجاوزنا المديرية حتى وصلنا إلى مقبرة الهواري قبل صلاة العصر بدقائق ووجدنا أغلب أو جل سكان مدينة بنغازي هناك، لم أجد إلا عددًا قليلاً من الأقارب وأبلغوني بأن نعيم تم دفنه.

وفي لحظات سمعت عدد من الشباب ينادون من على ظهر سيارة نقل بأنهم ذاهبون للكتيبة صعدت معهم وعند اقترابنا لمديرية الأمن وجدنا الاشتباكات امامها مشتعلة الأمر الذي جعل سائق السيارة يغير مسار الطريق كون وجهتنا كانت كتيبة الفضيل أبو عمر، وصلت لمنطقتي البركة حيث مقر الكتيبة والمنزل بعد غروب الشمس، كانت الأجواء مرعبة جموع الشعب أصبحت تحاصر الكتيبة من جميع مداخلها ابرزها المدخل المجاور للمنزل لم استطع الاقتراب من المنزل لاشتداد المواجهات وكانت الأسرة رفقة والدي بداخله، هاتفي مغلق وبقيت في المظاهرات حتى منتصف الليل وكان حجم الرصاص والقتل كبير.

انتهت المواجهات فجرًا وغادر المتظاهرون المكان وكان بإمكان جنود الكتيبة الانسحاب من الكتيبة وانهاء حالة القتل التي استمرت لأيام وتحدث عملية تسليم لوحدات عسكرية أخري وإصدار بيان للتهدئة، دخلت للمنزل صباحًا وجدت الأسرة قامت بتهيئة مكان داخل منزل للاحتماء من قصف قد يستهدف المنزل، وفي هذا اليوم السبت 19 فبراير كانت الأجواء صباحًا حتي الظهر مستقرة ومع مرور التظاهرات القادمة من ذات المسار الذي انطلقت منه يوم الجمعة مُشيعة لجثامين القتلى الذين سقطوا ظهر ومساء يوم الجمعة.

حدثت مواجهات بشكل مباشر من جديد عند مرور التظاهرات من أمام الكتيبة الأمر الذي جعل المواجهات تحدث في وقت مبكر ولم تنته إلا في فجر يوم الأحد، في مواجهات يوم السبت كُنت في شارع أمام المنزل ومع المتظاهرين نتقدم بالحجارة ويتم أرجعنا بالرصاص الحي، أعداد القتلى في تزايد وأصبح العنف هو سيد الموقف، تم إحراق إحدى المباني المقابلة للمنزل ويرجع لمكتب الاتصال بحركة اللجان الثورية، وليلاً أصبح عدد من المتظاهرين يستخدمون قنابل “الجولاطينة” وهي نوع من القنابل يدوية الصنع يستخدمها الصيادون في اصطياد السمك ورميها باتجاه الكتيبة، وعدد أخر قاموا بالاستيلاء على الآليات الثقيلة الخاصة بشركة الخدمات العامة لمحاولة اقتحام الكتيبة بها وتهديم أجزاء من أسوارها ليتمكنوا من الدخول إليها.

المواجهة؛ أصبحت شبه حربية ليلة السبت جنود الكتيبة يستخدمون جميع أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة والمتظاهرين بقنابل الجولاطينة والآليات الثقيلة، تمكنت من الدخول للمنزل في إحدى التقدمات وبقيت بداخله رفقة أسرتي، واكملت الليلة خلف النوافذ المطلة على الشارع والمواجهات، مرت الليلة حتى الفجر وساد الهدوء المكان ورائحة الرصاص وحرائق الإطارات والآليات ودماء تفوح في كل زاوية وعلى امتداد الشارع، أشرقت شمس يوم الأحد 20 فبراير وهو اليوم الحاسم الذي شهد نهاية المواجهات، تم إبلاغنا بضرورة ترك منزلنا وسيحدث تطويق مداه كيلو متر لإبعاد المتظاهرين عن الكتيبة؛ قمنا بإخراج أسرنا وتفريغ منازلنا مع إصرار والدي على البقاء في داخله أغلقنا الأبواب وخرجنا.

ومع العصر رجعت للمنطقة وكانت المواجهات دامية مع عامل أخر دخل يوم الأحد وهو مسلحين بزي مدني اتو من المدن التي سقطت في شرق البلاد وآخرين من بنغازي تحصلوا على بنادق بعد سقوط عدد من المعسكرات عصرًا، المواجهة كانت على كافة أبواب الكتيبة المطلة على مناطق “البركة، الحميضة، الزيتون” “المهدي زيو” بعد العصر استهدف بسيارته باب من أبواب الكتيبة المُطل على منطقة البركة، تقدموا جنود الكتيبة وانتشروا على بعد أمتار داخل منطقة البركة محاولين السيطرة على المنطقة وإبعاد المتظاهرين ليتمكنوا من تنظيم أنفسهم للخروج ولكن في تقدمهم هذا قاموا باقتحام المنازل ومنها منزلنا الذي أطلقوا على أبوابه الرصاص ودخلوا وصعدوا إلى أعلى المبني ليتمركزوا فوقه لساعات دون الدخول داخله وقاموا باطلاق الرصاص على السلالم أثناء صعودهم، اعتقلوا عدد من سكان المنطقة وتم حجزهم داخل الكتيبة.

واستمرت المواجهات حتى أتت سيارات مسلحة محملة بالجنود تابعين للقوات الخاصة “الصاعقة” الذين حاولوا فض الاشتباكات لاستلام الكتيبة ولكنهم وجدوا أنفسهم في مواجهة مع جنود كتيبة الفضيل بوعمر الذين نجحوا في الانسحاب من إحدى أبواب الكتيبة الخلفية المطلة على منطقة “الزيتون” وتوجهوا نحو البوابة الغربية لمدينة بنغازي وقبل خروجهم قاموا بإضرام النيران بالمبنى المهمة داخل الكتيبة منها عدد من المنازل وقصر الضيافة والمباني الإدارية، انسحبت القوات الخاصة واقتحم الشعب الكتيبة بعد المغرب مباشرةً.
فور تقدمي رفقة الشباب دخلت ضمن الفوج الأول من منطقة البركة وكانت حالة الدمار والحرق تعم المكان وانهيار بين جموع الشباب ولا أحد يستوعب أن الكتيبة اُسقطت وانتهت المواجهات.
وفور دخولي؛ وجدت مجموعة من العساكر يخرجون من الداخل باتجاهنا غير مُسلحين ويظهر عليهم الإرهاق والتعب، وتم تعرض لهم والاعتداء عليهم بالضرب المبرح من قبل بعض الشباب الذين دخلوا معنا ولكني حاولت مع عدد أخر إيقافهم وفهم من هؤلاء الجنود ما الذي جرى لهم، قال لنا أحدهم “خلوني نحول دبشي” قمنا بتأمين له مكان بعيد عن الازدحام ونزع أحد الشباب قميصه والبسه اياه وقال “نحن سكروا علينا كان عندنا جمع في الكتيبة سكروا علينا ومعش خلونا نطلعوا وهربوا وسيبونا” وفهمت إن هؤلاء الجنود لا علاقة لهم بالأحداث وأن القتلة الحقيقيين فروا خارج المدينة بعد أن تسببوا في قتل العشرات من الشباب وجرح أعداد أخري، ونجح الجندي و رفاقه من الخروج بأمان لخارج الكتيبة وعدد آخر تمكنوا من البوابات الأخرى.

تجولت داخل الكتيبة طوال تلك الليلة حتى أشرقت الشمس، الظلام والحريق في اغلب المباني وحالة من الفوضى ونهب والسرقة، مجموعات تقوم بتفريغ مخازن الأسلحة ومجموعات تقوم بأخذ المستندات والأوراق من المباني التي لم يتم حرقها، وأنا أمشي بين هؤلاء أبكي لهذه المشاهد وأتذكر الأحداث بكامل تفاصيلها وبداخلي شغف معرفة الكتيبة وماذا بداخلها، تجولت حتى ظهرت شمس صباح يوم الاثنين 21 فبراير توجهت للمنزل وجدت أثار الرصاص على الباب والسلالم لم أدخل أكثر وعدت لأكمل جولتي في المنطقة لرؤية منازل الجيران ماذا حدث لها.
وأثناء تجولي رأيت في عيون جميع من رأيتهم الفرح وفي ذات الوقت الخوف، البنادق والمسدسات في يد الشباب وآثار الحرق والدمار والدم في كل مكان.

تعرض أحد المصارف خلف المنزل للسرقة ومركز الأمن تم حرقه ونهب ما بداخله والمقرات الأخرى تم نهبها لا وجود لرجال شرطة ولا جيش باستثناء معسكر القوات الخاصة “الصاعقة” بدأت الجموع من الأهالي والشباب يتوافدون للكتيبة للاحتفال أمامها لسقوطها الذي كان يمثل نهاية نظام معمر القذافي، دخلت للمثابة التي بجوار المنزل تجولت بداخل الأجزاء التي لم تحترق وجدت عدد من صور القذافي قمت بجمعها والخروج بها حتى أمام بوابة الكتيبة ومزقتها أمام المحتفلين هناك.

وعدت للمنزل لأجد الأوضاع جيدة ولم يطل والدي أي أذى، وشاهدت الجيران يقومون بحملة تنظيف للشارع وأبلغنا بأن هناك اعتصام أمام محكمة شمال بنغازي التي ستكون مكاناً لتجمع الثورة المدني أخذت قسط من النوم.

وذهبت مساءً هناك وجدت حالة شعبية مختلفة نساء واطفال وشباب ورجال وشيوخ كل مدينة بنغازي في المكان، الفرح والبكاء والخوف ولا أحد يعلم ما الذي سوف يحدث وما مستقبل الثورة، وجدت تكتلات وتجمعات بشرية في المكان حديثهم يختصر عن نهاية القهر والحرمان والطغيان ولا وجود لحديث عن المستقبل، مجموعة من المحامين والإصلاحيين اتخذوا من داخل مبنى محمكة شمال بنغازي موقعاً لقيادة الثورة وأسسوا منبر صوتي أتي إليه الكثيرين من العسكريين والشخصيات المسؤولة معلنين انشقاقهم عن النظام أبرزهم اللواء الشهيد عبدالفتاح يونس، الذي لقي بيان انشقاقه ترحيب الجموع المنبر كان من نافذة إحدى الغرف داخل المحكمة مطلة على التجمهر الشعبي الذي أمام مبنى المحكمة.

أدارت المجموعة داخل المحكمة بعض الأمور التنظيمية التي تحث المواطنين على ضرورة الحفاظ على ممتلكات العامة ووضع إطار لمطالب الثورة وتلخص في بيان الانتصار الذي تلاه عبر أثير الإذاعة المسموعة المحامي الشهيد عبدالسلام المسماري يوم الثلاثاء 22 فبراير، كانت حالة التضامن كاملة بين المتواجدين مع الثورة والتغيير والهتافات الرافضة لعودة حكم القذافي.

انتصرت الثورة في بنغازي وعموم الشرق الليبي “برقة” رغم المآسي والموت والقتل الذي طال أبناءها، وهذا الانتصار مهد الطريق أمام باقي مدن غرب البلاد في مصراته وطرابلس والزاوية والزنتان وغيرها من مدن ومناطق الانطلاقة لتهتف ضد النظام وتنادي بالتغيير ونيل الحرية لا لحكم الفرد لا للترهيب والإقصاء والتجويع.

لم يكن هناك تدخلاً أجنبيًا بعد ولا قرارات دولية تناصر المتظاهرين والثورة لا غطاء جويًا ولا أحزاب ولا جماعات وكيانات سياسية لا معارضة ليبية ولا خلافات، الشعب كان وحيدًا وبمفرده يصنع ثورته ويسير نحو طريق الحرية ثابتًا ومتضامن في صف واحد.

وتواصلت الأيام وفي كل يوم كانت الأعداد تتضاعف والانشقاقات عن النظام تتزايد مؤكدة على مشروعية الحراك ومطالبه وضرورة نهاية القذافي ونظامه.

في تلك الأيام؛ لم نسمع وصف ثوار ولا قادة ميدانيين ولا كتائب أو مليشيات ولا قبائل واعيان ولم نرى غالبية الشخصيات النافذة اليوم سياسيًا أو عسكريًا، الشعب تولي المهمة وعادت المدينة لتزدهر بعد الرعب الذي عاشته، أعمال ترميم للشوارع وتأمين للمناطق والممتلكات العامة وتوفير كل شيء يحتاجه المعتصمين بالمحكمة، شعرنا بالسلم والمحبة والترابط والتضامن لا تمييز ولا انتهازية واستغلال كلنا على هدف واحد نهاية نظام القذافي ومعانقة المستقبل بأفكار مختلفة والتمهيد لقيام ديمقراطية نموذجية تضمن لنا حق العيش الكريم.

وخلال الأيام الأولى للثورة؛ فإن نظام معمر القذافي وأدواته القمعية هم المسؤولين عن تحول التظاهرات المدنية السلمية لحالة من العنف والفوضى والقتل الجماعي الذي استهدف المتظاهرين، وعلى من كلفهم وأرسلهم لبنغازي لقمع التظاهرات تحديدًا، الذين تسببوا في قتل وجرح المتظاهرين وتطور المواجهات تكن أمام كتيبة الفضيل أبوعمر، وهم ذاتهم المكلفين الذين أصدروا تعليماتهم لقمع التظاهرات في مدن البيضاء واجدابيا وطبرق وغيرها من المدن والقرى، فلا يمكن بأي شكل من الأشكال الوقوف أمام إرادة ورغبة الشعب في التحرك والانتفاضة لأجل التغيير ولا يمكن لبلد مثل بلادنا إن تظل مرهونة لحكم فرد واتباعه، فمن حق الشعوب تقرير مصيرها وصناعة مستقبلها.

وإذا كان هناك رجل رشيد في تلك الأيام وأمام حجم الخروج الشعبي العارم كان عليه أن يعطي الأوامر لأجهزته وقواته الأمنية والعسكرية بأن تنحاز بشكل مباشر في صف الشعب وعدم تقييد حركته أو قمعه بالرصاص الحي واعطائهم حق التعبير عن آرائهم مهما كانت مستواها ويغادر ليُجنب المشهد الدموي الذي شهدناه في تلك الأيام وتحول ليصبح أبشع من خلال حروب شرسة نعاني ويلاتها لهذه الأيام.

لم يكن هناك تعصب من قبل الشعب ضد الأمن أو الوحدات العسكرية في الأيام الأولى ولكن الذي حدث هو العكس مع الأسف، وأنتهي هنا بالقول إن هذه الأيام ستظل خالدة في الوجدان كونها الأيام التي كسرنا من خلالها أول حواجز طريق الحرية والخلاص وإن المسيرة الشاقة التي لازلنا نسير بها اليوم هي الوفاء لتلك الأيام والتضحيات التي حدثت بها، ولا يمكننا العودة إلى الماضي إلا من خلال سرد الوقائع استذكارًا للحاضر والمستقبل وكي لا يستهين أحد بحق الشعب في حريته.

” المجد لشباب تلك الأيام الذي سطروا بطولة الخلاص، والخلود لضحايا تلك المواجهات الأبرياء العُزل”

“اغتيال على طريق الحرية .. نضال التيار المدني …4”

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى