مقالات مختارة

الحرية إذ تنقلب اختياراً

حسام عيتاني

في المعركة الضارية حول استبدال قانون الرعاية الصحية الأميركي المعروف باسم «أوباما كير» بآخر أشرف على وضعه قادة الأكثرية الجمهورية، تتكرر كلمة «الاختيار» كشعار يرفعه أصحاب المشروع الجديد الذي مرره مجلس النواب وسيعرض على مجلس الشيوخ قريباً.
لعل في الصراع حول القانون تتلخص جملة الفوارق ليس بين الجمهوريين والديموقراطيين فحسب، ولا بين اليمين واليسار أو بين مفهوميهما المؤسسين (وفق التفسير المبسط لظاهرة الانقسام التاريخي بين اليمين وبين اليسار، أي اعتناق الأول «الحرية» وتبني الثاني «العدالة») بل أيضاً تتجلى الفوارق بين فهمين لدور الدولة ولمعنى «أميركا» ذاتها، «أرض الرجل الحر» على ما يقول نشيدها الوطني.
«الاختيار» الوثيق الصلة بالحرية الفردية بات شعاراً اعتنقه اليمين الأميركي وخصوصاً الأوساط الأكثر محافظة فيه كتعبير عن التمسك بالاستقلال عن المركز الفيديرالي الذي تصوره أدبيات الجمهوريين (ومن آخرها ما ردده دونالد ترامب أثناء حملته الانتخابية) كوكر للفساد والتآمر على الأميركي العادي الطامح إلى تحقيق حلمه وخلاصه.
فأي اعتراض على انتشار السلاح الفردي بين المواطنين هو مسّ بالحرية وبالاختيار، وأي سعي إلى فرض ضوابط على الشركات الكبرى وممارساتها من تلويث للبيئة أو تضليل للمستهلك، هو اعتداء على الحق في اختيار المستهلك التعامل مع هذه الشركات أو مع غيرها.
من هنا لم يكن صعباً فهم تأييد ما يزيد على أربعين في المئة من الأميركيين (وفق استطلاعات الرأي) لاستبدال قانون الرعاية الصحية الذي يعتبره كثر درة إنجازات أوباما على المستوى الداخلي. المأخذ على القانون الذي وفر الحماية الصحية لعشرات ملايين الأميركيين من الفئات الأفقر ومن المهمشين، أنه يحد من حق اختيار التأمين الملائم الذي يريده المواطن الأميركي ويفرض على شركات التأمين وعمالها وموظفيها ما يعيق قدراتها الاستثمارية ويقلص من أرباحها.
اعتراضات الديموقراطيين التي ذهبت هباء في مجلس النواب بفعل الدور المؤذي الذي أداه الناطق باسمه بول ريان، تصدر عن موقف نقيض يقول إن إلغاء «أوباما كير» سيعني صبّ بلايين الدولارات في جيوب الأثرياء المنتفخة أصلاً على حساب مرض وموت الملايين الذين سيحرمون من التغطية الصحية. ويلاحظ الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل والمعلق في «نيويورك تايمز» بول كروغمان، أنها المرة الأولى منذ صعود اليمين النيوليبرالي مع رونالد ريغان التي لا تستخدم فيها مبررات من نوع أن خفض الإنفاق على البرامج الصحية وعلى مساعدة الفقراء يساعد على تحفيز الاستثمار. هذه المرة تقال الأمور مثلما هي: يجب تخفيض الإنفاق على صحة الفقراء لأنه يحد من حق اختيار الأثرياء. أما لماذا يفعل الجمهوريون ذلك، فيقول كروغمان «ببساطة لأنهم يستطيعون» أن يضاعفوا ثرواتهم من دون الأخذ في الاعتبار المصلحة العامة أو معاناة المرضى الفقراء.
عليه، تصح رؤية جانب إضافي من تبدل المجتمعات، في الدول الصناعية الكبرى أولاً، وتليها في تلك المتخلفة مثلنا. لقد اضمحلت الحدود القانونية بعد الموانع الأخلاقية التي أقامتها دولة الرفاه بعد الحرب العالمية الثانية، إلى الحدود التي لم يعد من الضروري استخدام كلمات مخادعة لتمرير ما يودون تمريره. نموذج آخر من هذه الممارسة شكّله احتراق برج غرينفل في لندن. ففي معرض تمسكهم بغلاف الألومنيوم المحشو بمادة البولي إثيلاين التي تسببت بالتهاب البرج والذي تم «تجديد» المبنى به قبل أعوام، قال المقاولون إن حظر تلك الشرائح كما هو الحال في أوروبا، «يحد من الاختيار». لكنه نوع من الاختيار يفيد جهة واحدة في الطيف الاجتماعي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الحياة” اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى