كتَـــــاب الموقع

فاتهم القطار

فرج عبد السلام 

لا يختلفُ ما يحدث في الجزائر الآن، عما حدث في ليبيا قبل ثمان سنين، سوى في جزئيات بسيطة، لكن دلالات الحدثين ومآلاتهما مهمة بل عظيمة. فالاستبدادُ وتكميم الأفواه سمةٌ مشتركة في النظامين الشموليين اللذين يدّعيان الديموقراطية الشعبية، لكن المشترك الأكبر بينهما هو الفساد الكبير الذي أفقر غالبية الشعبين، وحوّل الدولة إلى جماعات مافيوزية متصارعة على نهب خيرات البلد دون هوادة، وجميع أجنحة السلطة في كل المؤسسات دون استثناء متورطة في الفساد، ضمن نهج بناه النظام السياسي في البلدين متعمّدا، فقتلَ قيمة العمل، والجهد، والإبداع، والتنافس النزيه والحر.
كل المؤشرات تقول إن الجزائر ستخرج من مأزقها قريبا لأسباب عديدة، أهمها اختلافها الكلي عن الحالة الليبية في الظروف العامة التي تحكم البلدين. وبغضّ النظر عن الأسباب الموضوعية التي دعت الجزائريين إلى الانتفاضة والخروج ضد “العصابة الحاكمةُ” كما هو لقبها الشائع في أوساط الشعب، إلاّ أنّ الجزائر لحُسن حظ ّأهلها، تظل دولة مؤسسات يحكمها القانونُ والنظام والدستور، والأهم من ذلك أنّ رئيسها ومسؤوليها يحبّون بلاهم وشعبهم. على العكس من ليبيا، التي ابتليت طوال أربعة عقودٍ، بمستبدٍّ نرجسي أبطل القوانين، وعطّل الدستور، وجعل من نفسه حاكما وحيدا يتصرف بسوءٍ بالغٍ في مقدرات البلاد، وفي شعبها، كما يملي عليه خياله المريض. فلم يترك بالتالي مجالا لأي عودة عن الطريق الشائك الذي تسير فيه البلاد اليوم، ولم يكن بالتالي مفرّ من ذهاب الثورة في ليبيا إلى ما ذهبت إليه من سوء واضطراب. فمِثلُ المادة 102 التي كان يمكنُ أن تنقذ الليبيين من المصير الغائم الذي انتهوا إليه لم تكن موجودة، ولا كان موجودا الدستورُ الذي يمكن أن يحتويها، لتكون ملاذا في أوقات العسرة، فقد ضرب به “ملك الملوك، وظل الله على الأرض” عرض الحائط، وما ظنّ يوماً أنّ شعبه سيفعل به ما فعل.
أما الجزائرُ الحيّة فتنشغل اليوم بمطالبة قائد الجيش بتفعيل المادة 102 من الدستور التي تقضي بإعلان شغور منصب الرئيس إذا لم يعد قادرا على أداء مهامه. وبالرغم من أنّ قطاعات عريضة من الشعب والمعارضة، يرون في هذا الطلب تحركا من الدولة العميقة التي حكمت في ظل بوتفليقة، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مؤسسات السلطة والقائمين عليها، وأن هذه المطالبة تعدُّ أسوأ سيناريو، لأنه تضحية ببوتفليقة مع إبقاء النظام على ما هو عليه من دون تغيير، أي استمرار للنظام دون رأسه. وبالرغم أيضا ممّا يبدو عليه الوضع في الجزائر من غموضٍ في الوقت الراهن. إلاّ الربيع المبارك الناعم الذي انطلق في 22 فبراير، جعل الأمور تسير في تسارع يشعر الجزائريون معه بالحيرة من سرعته وتعاظمه، فلا أحد يعرفُ ماذا يخبئ اليوم التالي من مفاجآت. لكنّ التفاؤل يسود الناس، لإيمانهم بمشروعية وحتمية نجاح مطالبهم، ولأنّ البطانة إيّاها، وسدنة النظام الذين كانوا يتسّترون بالرئيس العاجز قد فاتهم القطار، كما قال ذاك الراقص على رؤوس الثعابين في اليمن. الأمرُ المؤكّد أنّ المارد الجزائري قد كسر القيد، وخرج من القمقم، ولن يعود إليه. والأكيد أيضا أن من سجنوا المارد في القمقم أخِذوا على حين غرّة، وهم في متاهة، لا يعرفون الرد المناسب على هذه الصحوة المفاجئة للشعب الذي تشكل فئة الشباب فيه أكثر من سبعين بالمائة من تعداد سكانه.
إنّ بقيةً من نظامٍ ومؤسسات دولةٍ حتى وإن طالها الفساد، وإن جيشاً متماسكا يسيرُ بحذر بين متطلبات الشارع وعينه على عدم انزلاق البلد في طريق الفوضى، وإنّ شعبا فتيّا متعلما، يملك وعيا سياسيا، ولديه تجربة عميقة في إدارة الاختلاف السياسي، كلُّ هذه وصفة ناجعة لنجاح ربيع الجزائر، ووصوله إلى الهدف المنشود، فلسان حال القائمين عليه يقول: حان الوقت أن يخلد الحرس القديم إلى الراحة بعد أن فاتهم القطار، وأن يترك الأجيال الشابة تدير معركة الديموقراطية والتنمية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى