كتَـــــاب الموقع

صراع الصمت والكلام

عمر أبو القاسم الككلي

الصمت قرين الكلام. مثلما أن السكون قرين الصوت إجمالا. فحتى في الموسيقى، ليس ثمة نغم متصل لا تتخلله فترات سكون (= صمت) قصيرة. وفي عروض الشعر تُستخرج التفعيلة، أي وحدة الوزن، من تعاقب الحروف المتحركة والحروف الساكنة. أي من الحركة (= الصوت) والسكون (= الصمت).

إذن، فالصمت صنو الكلام. نقيضه المصاحب الذي يشترك معه في نقل المعاني والدلالات. إنه المشاغب الذي ينازع الكلام في ما يعتقد أنه ملكيته المحتكرة، ألا وهو نقل المعنى والدلالة، وأن يكون قنطرة التواصل. يقوم الكلام بالتعدي على الصمت محاولا تشتيته. عندها يرد الصمت بأن يغتنم منه بعض جوانب المعنى والدلالة. فبما أن الكلام هو أبرز سبل التواصل مع الآخر، فإن الصمت يزاحمه في هذا. إذ الصمت، في حضور الآخر، هو كلام من نوع مختلف. وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار الكلام صمتا موازيا، والصمت كلاما مناظرا.

المستوحدون المعتكفون، يتسربلون بالصمت. لكن وجدانهم وعقلهم، ليسا صامتين. إنهما يضجان بمناجيات وحوارات، وحتى معارك، عاطفية وفكرية. وهم صامتون، يخاطبون أنفسهم بلغة غير ملفوظة، لكنها قابلة لأن يتلفظ بها وتتحول إلى أصوات تسمع وتستوعب من قبل سامعيها. في هذه الحالة يكون الصمت أداة إنتاج والكلام أداة توزيع لهذا الإنتاج الذي مصدره العقل.

العقل لا يمكنه أن ينتج شيئا في خضم الضجيج. وإنما يحتاج إلى الهدوء والسكون (= الصمت). وإذن، الكلام يتولد في رحم الصمت. لكأن الصمت أصل الكلام، ولكأن الكلام الابن العاق الذي يتمرد على سلطة الأب، فيحاول هذا الأب الاحتفاظ، على الأقل، ببعض سلطاته في مواجهة هذا العقوق.

كثيرا ما يقال لنا أنه إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت (= الصمت) من ذهب. وإذا كان هذا القول لا ينكر على الكلام القيمة بالكامل، إلا أنه ينحاز إلى الصمت انحيازا شبه كامل. إنه يبالغ في تمجيده. هذا القول ينطلق من حالات محدودة يكون فيها الصمت ذهبا والكلام نافلا ومن سقط المتاع، ليعمم ذلك ويجعله أمرا مطلقا، غافلا، أو متغافلا، عن أن ما يميز الإنسان هو الكلام (= اللغة)، وليس الصمت. وقد سبق أن قال الشاعر الليبي إبراهيم الأسطى عمر:
قيل صمتا فقلت لست بميت… إنما الصمت ميزة للجماد

الكلام (= اللغة) هو العامل الأبرز في تكوين الثقافة والحضارة إجمالا. هو مادة الأدب والفكر. وعندما احتضنته الكتابة، حمل الكلام على عاتقه حفظ سجل للتاريخ البشري، قدر الإمكان طبعا. فالآداب والفكر وجوانب الحضارة البشرية جمعاء حفظها وورثها لنا الكلام، وليس الصمت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى