مقالات مختارة

سعيد في باريس.. اختبار الحياد التونسي في الملف الليبي

مختار الدبابي

الرئيس التونسي سيكون هذه المرة في اختبار جدي من خلال زيارته لباريس، فهي أول زيارة بأجندة دبلوماسية واضحة، فضلا عمّا تحمله من آمال تونسية في جذب صورة الرئيس سعيّد، الذي يأتي إلى الحكم من خارج الطبقة السياسية ويتسم بالنزاهة ونظافة اليد والشعبية الكبيرة، دعما فرنسيا وأوروبيا لتونس خاصة بعد مخلفات كورونا. يمكن للرئيس أن يشتغل على الرمزيات: صورته الشخصية، صورة الانتقال الديمقراطي ونجاح البلاد الصغيرة محدودة الإمكانيات في هزم كورونا.

ستكون زيارة الرئيس التونسي قيس سعيد إلى فرنسا، والمقررة ليوم غد (الاثنين) مهمة كونها أول زيارة خارجية تتخفف من البروتوكول والواجب، وتدخل بنشاط الرئيس سعيد مرحلة المصالح. فالرجل زار سلطنة عمان للتعزية في وفاة السلطان قابوس، وزار الجزائر لتهنئة الرئيس الجديد عبدالمجيد تبون بمهامه، فضلا عن كونها “زيارة اضطرارية” بعد اتهامات للرئيس بأنه لا يريد السفر، وأن دبلوماسية البلاد ستتضرر بسبب ميله إلى العزلة وعدم مغادرة القصر.

الآن ينظر إلى الزيارة على أنها البداية الفعلية لدبلوماسية سعيد، وأن الرجل أخذ من الوقت ما يكفي لمعرفة البيت الداخلي، وخاصة فرض نفسه “الرئيس الوحيد” وصاحب الشرعية الأكبر في سياق ردود لا يبدو أنها ستتوقف تجاه رئيس البرلمان راشد الغنوشي الذي سعى إلى وضع اليد على صلاحيات سعيد الخارجية في فترة التردد والغموض والإرجاء التي طالت أكثر من اللازم.

وكان أنصار الغنوشي يمهدون لإحراج الرئيس سعيد بالحديث عن اعتذار الغنوشي عن زيارة الجزائر بصفته رئيس البرلمان، وكذلك اعتذاره عن حضور منتدى دافوس مراعاة لـ”مشاعر الرئيس” الذي رفض دافوس.. لكن سعيد تكلم أخيرا ورد الصاع صاعين لرئيس حركة النهضة في خطابات كثيرة قال فيها إنه الرئيس الوحيد في البلاد، وغمز بشكل واضح إلى الغنوشي أن الزم حدودك.

وفي الوقت الذي يسافر فيه الرئيس التونسي إلى فرنسا يتجه رئيس البرلمان إلى الجزائر، الاثنين، في صراع خفي على الحضور الخارجي.

اختبار الوضوح
تقول أوساط سياسية تونسية إن زيارة باريس ستكون اختبارا جديا لمواقف الرئيس سعيد، الذي لا يزال حريصا على الظهور في مظهر الثائر والمعارض لكل شيء، والساعي إلى تغيير وجهة الحكم.. والسؤال هو هل أن الخطاب الراديكالي الثوري، الذي يذكر بأيام الجامعة التي عاشها الرئيس أيام صعود موجة اليسار والحملة على الاستعمار والرجعية، سيستمر في الخارج كما في الداخل، أم أن الأمر مختلف، وأن الرجل يسافر باسم تونس ويفاوض ويعقد الاتفاقيات وفق مصالحها؟

بالتأكيد أن الرئيس سعيد جهّز نفسه لهذه الزيارة جيدا ليحقق أمرين اثنين، الأول إظهار أنه رئيس في حجم تونس وسمعتها، وأنه وفي لالتزاماتها وصداقاتها، والثاني أن الزيارة لا تتناقض مع أفكاره ودعوته للتغيير، بل ربما تكون خادمة لها، فضلا عن إظهار أن ثوريته في الداخل لا تعني فوضوية، وأنه ليس القذافي ولا شافيز كما يحرص خصومه على التشبيه المتآمر.

زيارة باريس ستكون مهمة لسعيد لتأكيد قدرته على جلب مكاسب لتونس وإن اضطر إلى السير على حبل رقيق من المتناقضات
لكن المشكل في الزيارة أنها ستضعه في مواجهة مع الوضوح والحسم خاصة ما تعلق بالموقف من الملف الليبي، فباريس تريد أن يظهر الرئيس إيمانويل ماكرون في صورة من يكسب حلفاء في مواجهة صلف غريمه التركي رجب طيب أردوغان، وسعيد يريد أن يكون دائما في النقطة الوسط، على الأقل في التصريحات بشأن ليبيا.

ماذا سيقول الرجل في باريس؟ هل سيقبل منه الفرنسيون الحث على خروج القوات الأجنبية من ليبيا دون ذكر أسماء ودون اصطفاف واضح إلى جانبهم، خاصة أن الأمر ستكون له نتائج على موقف تونس، العضو الحالي في مجلس الأمن، والتي يمكن أن تلعب دورا مهما في قيادة مبادرة عربية بشأن الحل في ليبيا.

إلى الآن، ومنذ 2011 لم تغير تونس اصطفافها في الملف الليبي، فقد كانت مع إسقاط القذافي، وإن كانت لم تعلن ذلك صراحة، ولكن تقارير مختلفة أشارت إلى تدفق الأسلحة، وقتها، من تونس، وأنها كانت إحدى نقاط إدارة العمليات.. بعد ذلك، وإلى الآن، حافظت على دعم المجموعات الموجودة في الغرب والمسيطرة على طرابلس، وهو انحياز ارتبط بتأثير كبير لحركة النهضة على الدبلوماسية التونسية منذ 2011 حتى في فترة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، والتي كانت خلالها ممثلة بوزير وبعض وزراء الشؤون (كتاب دولة كما يسمونها في تونس).

وحين استلم سعيد دواليب الرئاسة وجد نفسه يتحرك آليا ضمن قنوات دبلوماسية صنعتها النهضة، ذلك أنه استقبل أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، والرئيس التركي في زيارة مثيرة للجدل، وحتى حين حاول الرئيس التونسي “الانفتاح” على المحور المقابل من خلال استقبال وزراء خارجية الإمارات والسعودية، أو إجراء اتصالات مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد، فإن الضغط الإعلامي، وخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، اضطر الرئاسة التونسية أو إحدى وزارات السيادة إلى إصدار بيانات للتوضيح، مثلما حصل مع وزير الدفاع عماد الحزقي بشأن تصريحات وصف فيها المجموعات الموجودة في طرابلس بالميليشيات.

الحياد والمصالح
الملف الليبي محور زيارة الرئيس سعيد إلى باريس
يعني استمرار الرئيس سعيد في التأكيد على “الحياد” من الملف الليبي أمرين اثنين إما حياد في موقفه الشخصي، والنأي بصورته عن موجة الانتقادات السياسية في الداخل لانحياز تونس في ملف حيوي، وفيه اعتراف بأن الدبلوماسية تحددها جهات أخرى مع أنها من مهامه، وإما “حياد” هدفه التغطية على واقع أن تونس صارت جزءا من حلف تركي قطري ولا يمكنها أن تتراجع.

وأعتقد أن الخيار الثاني هو الأقرب، فهناك دوائر تونسية تراهن على استقرار الغرب الليبي تحت أي مسمى لاعتبار أن مصالح تونس مع المنطقة الغربية، لكنها حسابات قصيرة لأن تحالف الدول الذي سيسيطر على طرابلس بعد الحرب لن يترك لأصحاب “الحياد الإيجابي” أي مصالح ولا صفقات.

وهذه تركيا لم تتردد لحظة، وقبل انتهاء الحرب، في أن تفرض الأمر الواقع على الليبيين بضمان اتفاقيات بعيدة المدى في مختلف المجالات الحيوية، وهو ما عكسته زيارة الوزراء الأتراك الأربعة إلى طرابلس منذ ثلاثة أيام.

ونقلت وكالة رويترز، الجمعة، عن مسؤول تركي كبير قوله إن بلاده مستعدة للبدء بخطى سريعة في إعادة إعمار ليبيا.

وقال المسؤول الكبير إن المسؤولين الأتراك وحكومة الوفاق الوطني ناقشوا المدفوعات المستحقة للشركات التركية عن أعمال الطاقة والبناء السابقة في ليبيا، وبحثوا السبل التي يمكن لتركيا أن تساعد من خلالها في عمليات استكشاف الطاقة، بما في ذلك التعاون “في كل مشروع يمكن تصوره” للمساعدة في وصول الموارد إلى الأسواق العالمية.

ولم يخف الوزير التركي استعجال بلاده لوضع يدها على المجالات الحيوية المربحة قبل انتهاء الحرب حين قال “هناك حاجة ماسة إلى البنى الأساسية.. والشركات التركية في وضع يسمح لها بالبدء في مثل هذه الأعمال بسرعة”.

وبدأت تركيا تبني على السريع تحالف المستفيدين من الحرب في الغرب الليبي من خلال إغراءات تقدمها لإيطاليا، وهو ما بدا واضحا في زيارة وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو، وكذلك عروض الخدمات التي تقدمها للولايات المتحدة.

فأين تونس من حراك اقتسام المصالح؟ وإذا كان الأتراك “أصدقاء” للغنوشي أو سعيد فلماذا لا يقرأون حسابا لمصالح تونس؟ وهل يمكن أن تقرأ فرنسا لو أعادت تعديل الأوضاع على الأرض حساب تونس ومصالحها؟

في الوقت الذي يسافر فيه الرئيس التونسي إلى فرنسا يتجه رئيس البرلمان راشد الغنوشي إلى الجزائر، الاثنين، في صراع خفي على الحضور الخارجي
سيكون الملف الليبي محور زيارة الرئيس سعيد إلى باريس، لكن الأقرب أن الرئيس التونسي سيعمل على إحداث توازن في جدول الزيارة بالتركيز على العلاقات الاقتصادية وفرص التعاون خاصة أن البلاد على أبواب أزمة حادة ليس فقط سبب مخلفات الوباء، ولكن لفشل الخيارات الاقتصادية التي قامت منذ 2011 والتي راكمت الديون والاقتراض واستثمرتها في شراء السلم الاجتماعي وترضية الحركة الاحتجاجية التي لا تتوقف مطالبها.

ويعتقد أن سعيد سيعمل على إظهار التسامي على الجدل بشأن عريضة رفضها البرلمان منذ أيام كانت تطالب فرنسا بالاعتذار على فترة الاستعمار، وربطها بحالة الفوضى التي تعيشها المؤسسة التشريعية التي باتت تثير غضب الشارع التونسي قبل غضب فرنسا.

ويمكن أن يعطي خطاب سعيد وصورته كرجل من خارج الطبقة السياسية نجح في قيادة تونس للخروج من أزمة كورنا، ولو مرحليا، بأخف الأضرار، دفعا للزيارة خاصة ما تعلق باستقدام السياح الفرنسيين مستفيدا من غموض أوضاع الأسواق التقليدية التي يؤمها هؤلاء السياح في العادة.

وهكذا، فإن زيارة باريس ستكون مهمة ومصيرية للرئيس سعيد ليس فقط بتأكيد فصله بين أفكاره الثورية ومصالح تونس الخارجية، ولكن الأهم في قدرته على جلب مكاسب لتونس وإن اضطر إلى السير على حبل رقيق من المتناقضات والإكراهات الداخلية والخارجية.

المصدر
صحيفة العرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى