كتَـــــاب الموقع

خطّرها

جميلة الميهوب

فصل الصيف، عمري 20 عامًا، كنت في رحلة لإيطاليا مع أختي “آمال” وأخي “أحمد”، خطيب “آمال” طلب منها زيارة أحد أصدقائه هناك، المكان ليس بالبعيد عن روما، مدينة جميلة تشبه المنتجع، عمارات جميلة وسط منطقة خضراء.

نزلنا من التاكسي، أمام العمارة كان في استقبالنا رجل ضخم، أسمر البشرة، مبتور الساقين، على كرسي متحرك، أسرع لاستقبالنا بفرح وحب، فاتحًا ذراعيه، أحمد سار بمحاذاته وأنا وآمال التي كانت تخفي دموعها سرنا وراءهم.

دخلنا شقة أرضية، كان في استقبالنا شابة هي أخته، داخل حجرة الضيوف كان الأب والأم جالسين، كانا في عالم آخر، عالم آخر، أجسادهما فقط معنا، عقولهما وأرواحهما في عالم آخر، عالم لم أكن أعلم عنه شيئا في ذلك الوقت.

عالم أب وأم فقدا أكبر أبنائهم ساقيه لشهامته، فقد ساقيه لأنه أنقذ الآخرين من الموت عندما شبّ حريق داخل معسكر كان يعمل فيه، أنقذ الآخرين ولم يستطع إنقاذ نفسه عندما انفجر صاروخ.

جملة يتيمة وحيدة كانت ترددها الأم بعد خروج “أحمد” وابنها لقضاء المساء في الشرفة: “لم يبقَ من ابني إلا الثلث”، وفي كل مرة تنهمر دموعها قبل أن تكمل جملتها، كان الأب صامتًا طوال الوقت، ينظر إلى زوجته وكأنه يلوم نفسه: ابني شهم. أنا من جعلته شهمًا.

يا الله! ما هذا الكم الهائل من الحزن الذي اقتحم قلبي وتملكه، الحزن يسبح في المكان، في الوجوه، في الجدران والأثاث، حتى النور المنبعث من الثريا كان شاحبًا وحزينًا، إلى أن طُرق الباب ودخلت شابة حنطية البشرة، شيء من الحب طغى على حزنها وأخفاه فبدا وجهها مختلفًا، شابة ربما في نهاية العشرينات، صديقة الشاب الشهم، تعرّف إليها في محنته، تبيّن لنا أنها ليبية، كانت في إيطاليا للعلاج وإجراء عملية قلب، وقف معها ماديًا ومعنويًا عندما تخلت حكومتنا، كالعادة، عن روّادها.

هذه الشابة من الجنوب، كابتن طيار، كانت من أوائل النساء الليبيات اللواتي تعلمن قيادة الطائرة، حكت لنا أنها في مرة من المرات، أثناء جولتها التدريبية مع كابتن باكستاني، وقعت الطائرة بهما في الصحراء. ظلّا تائهيْن في صحراء لمدة أسبوع قبل أن يتم العثور عليهما، وكعادة العظماء، في حضرتهم تكون البساطة في الحديث وفي كل شيء.

بعد رجوعنا إلى ليبيا وبعد إتمام رحلة علاجهما، لا أذكر، بعد عام أو عامين، لا أذكر، تزوج الرجل الشهم من تلك الشابة.

لم نلتقِ بعدها، كانت تأتي بعض الأخبار عنهما من هنا وهناك.

بعد أعوام ليست بالقليلة رأيت تلك السيدة العظيمة في وفاة أختي “آمال”.

كانت جالسة وسط النساء البسيطات، تقرأ القرآن وتبكي بعد أن غسّلت “آمال” وكفّنتها.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى