كتَـــــاب الموقع

حكايات مع ظبية عن قوة الأمل

سالم العوكلي

من ضمن نبشي لذكريات الربيع العربي في بدايته عثرت على رسالة كنت قد بعثتها إلى الكاتبة والشاعرة الإماراتية المقيمة بالقاهرة: ظبية خميس، ردا على رسالتها التي بعثتها على إيميلي يوم 16 يناير 2011 .. وبعد أيام اختُرِق إيميلي ووصلت هذه الرسالة إلى الأجهزة الأمنية في حينها، لكن الله سلم، حيث وأنا أتابع الثورة المصرية في بيت درنة الثقافي اتصل بي الصديق إدريس المسماري ليسألني إذا ما كنت قد بعثت برسالة لصديقة كاتبة في مصر، وحين أجبته بنعم، قال لي إن أحد أصدقائنا من الكُتّاب حدثه أنها وصلت لأيديهم وعلي أن أكون حذرا. ربما من الأشياء الغريبة أنه في بداية ذاك الحراك كان يحال كلما يتعلق بالكُتّاب أو الفنانين إلى رؤساء بعض المؤسسات الثقافية الرسمية، مثل: أمانة اللجنة الشعبية للثقافة أو الهيأة العامة للصحافة أو المجلس الأعلى للثقافة، وهم يختارون بعناية على رأس هذه المؤسسات طبقا لولائهم وليكونوا مسؤولين عن كل من يعمل في هذا الحقل، أو كما قال لي مرة أمين اللجنة العامة للثقافة حين تلاسنّا في مكتبه بخصوص استقلالية بيت درنة الثقافي عن الأمانة، قال لي وهي في ذروة الغضب: من تراه أمامك نصفه مثقف ونصفه رجل أمن. ويبدو أن هذا الإجراء الذي واكب الحراك كان محاولة من النظام لترطيب الأجواء والحيلولة دون الكُتّاب والفنانين وأجهزة الأمن الأخرى التي لا تعرفهم، وكان هؤلاء القائمون على هذه المؤسسات الثقافية يجرون محاضر تحقيق شكلية لاحتواء الأمور. وهذا ما حدث في حالتي وحدث لبعض الآخرين. طبعا باستثناء الصديقين إدريس المسماري، وربيع اشرير، اللذين كان نشاطهما ميدانيا من قبل وبداية الحراك، حيث تعرضا لكثير من التعذيب في أقبية النظام الشرسة.

هذا نص رسالتي التي بعثتها للكاتبة والشاعرة الإماراتية ظبية خميس، بتاريخ 16 يناير 2011، كمحاولة للإجابة عن سؤالها حول ما قاله القذافي بشأن الثورة التونسية، وعن المتوقع أن يحدث في ليبيا:

“الصديقة ظبية: مثلما تشكلت أوضاع عربية مختلفة بعد سقوط صدام، ستتشكل رؤى مختلفة للشارع العربي بعد الثورة التونسية. مثلما هناك مفردات سائدة كالخوف والصبر واليأس، ثمة مفردات أخرى لا بد أن تعلن عن نفسها وطالما هي وجدت في اللغة لا بد أن يكون لها مكان في الواقع والتاريخ: الشجاعة الثورة الأمل، وعندما يهبط الناس إلى الشوارع مؤمنين بقضيتهم لا بد أن تقلع طائرة على متنها دكتاتور.

هكذا علمنا التاريخ وهكذا قوة الناس حين يدار الزحام بحنكة من أجل الحياة. مشكلتنا لا نعرف كيف نوظف الزحام ولا نعرف كيف نجعل من الشوارع ساحات ثورة، لكن أعتى نظامين عربيين سقطا. نظام صدام العسكري والذي شاب سقوطه تدخل القوى الخارجية، ونظام زين العابدين البوليسي الذي أعطى درسا جديدا في إمكانية أن يكون الداخل هو صاحب الكلمة، وفي كلتا الحالتين كان القذافي يعلن عن فزعه مما يحدث، فهو يتكلم لأنه يدرك أنه وزمرته في الطابور، وكل ما يسعى إليه أن يكون الأخير في هذا الطابور. فالزمن يا ظبية تبدل وستنتهي النظم الاستبدادية مثلما انتهى عصر الرق. الحلقات تضيق عليهم، وهذه الجيوب المنسية في جسد العالم ستتلاشى وتصبح جزءا من تراث الإنسانية، ودائما للصبر حدود.

شكرا على عرضك الرائع لوقائع هذا الجيل الحائر الذي عليه أن يدرك أن الشارع ليس فقط للتسكع أو التسوق أو التسول، لكنه مكان تاريخي للثورة ولملحمة الحرية”.

وهذه مختارات من رسالة ظبية خميس الطويلة والتي نشرتها كاملة كمقالة، تحت عنوان: (جسد ووطن وعيون مفتوحة على البعيد):

“نحن سعداء، وأشقياء في اللحظة ذاتها. وكأهل الكهف في كتاب إفلاطون قابعون في العتمة نختبر عودة ذلك الذي أصر على مغادرة الكهف ليرى الوحش المروع الذي نرتجف لمجرد ذكر اسمه، ضياء ونور الشمس. شمس الحرية في حالتنا اليوم.

منذ خمسينيات وستينيات القرن المنصرم لم نحلم. والأكثر أن الكوابيس تباغتنا بين خطوة وأخرى إلى أن وصلنا إلى قناعة ربما بأننا غير جديرين بتحقيق الأحلام واكتفينا بتبني واقع الكوابيس، نوارى شهداءنا وآلامنا وإحباطنا وبؤسنا في قلوبنا الدامية كل يوم ونخشى قوة الأمل.

معظمنا يتفرج، كثيرنا يكتفي بالصمت وبعضنا يوارى جثامين من تجرؤوا أو كانوا في صدفة الطريق. لا ليس زمن غاندي وثورة السلم أمام العنف، ولا زمن عبدالناصر ونيكروما والقس لوثر كينج ولا زمن تشى غيفارا وسوكارتو ولا زمن الثورة الفرنسية والأمريكية، لكنه زمن يحمل مشاهده ونتائجه غير المتوقعة والمباغتة أحيانا بالخير أو الشر.

نعم أشهد بأننا قد رأينا حتى التبست علينا الرؤى وصرنا نحب بنصف قلب ونكره بالنصف الآخر، ونبحث بالمجهر عن الرموز والطريق والوطن ويلتبس علينا لون الحلم والكفن.

نريد ونريد ونريد غير أننا لا نعرف كيف نصل لما نريد ولا الطريق إلى الطريق فالأيديولوجيات الكبرى قد ماتت ولا دول تدعم الثورات وليس أمامنا سوى سلاح الدين أوسلاح أمريكا فما العمل؟؟؟

نجلس ونتفرج، ونكتئب ونتفرج، ونموت ونتفرج. غير أن هنالك دائما ما يباغتنا ويؤججنا بشدة ويفقدنا توازننا, فرحا أحيانا ودون حسابات سابقة. ففي منتصف الجملة تماما ينقلب المشهد! ثم لا نلبث أن نلتقط أنفاسنا لنفاجأ بثورة حقيقية، بشهدائها وحرائقها ومظاهراتها وسقوط رئيس دولتها وفراره كفأر مذعور تاركا حرائق الفوضى وشمس الأمل وراءه فى تونس الخضراء.

مشهد مستمر ولا يكاد يصدق، وسيناريو تاريخي لأعظم الروائيين، الشعب الذى يحكى تاريخه ويكتبه فى الوقت نفسه. نفرح بجنون، ونخاف بجنون، ونطلق الحلم في المخيلة، ونكبحه أيضا. نخشى عليهم ونخشى منهم ونخشى أنفسنا. نحسدهم ونشعر بالشفقة عليهم أيضا. نرصد بعيون مفتوحة، نتلذذ بطائرة لا يقبل استقبال راكبها أحد، ونتعاطف مع دراما ضياع المصير إنسانيا. نتفرج على جسد الشاب الغاضب والمحبط وهو يحرق جسده والنيران تشتعل فيها، ونحزن لموته ونفرح أيضا لأنه أشعل غضب شعب بأكمله وكان وقودا لإرادته. نتذكر مارى أنطوانيت في شخص زوجة الرئيس الهارب ليلى، ونتذكر مشاهد متخيلة من الثورة الفرنسية ونحن نشهد حرق المحال والقتلى وصراع رجال الأمن والنظام السابق مع جماهير تونس الغاضبة، ومشاهد السرقات وحرق محطات القطار، ونرى الحياد الغربي الأوروبي، وجملة التشجيع الثوري من رئيس أمريكا، والتحذير والدعوة للتضامن من جامعة العرب والتوبيخ الليبي الذي يمارسه القذافى على الشعب التونسي وهو يقول لهم كانت خضراء وصارت فحمة ويسألهم- وهو الماكث الأبدي على أنفاس شعبه- ألم يكن بإمكانكم أن تصبروا حتى تنتهي ولاية رئيسكم عليكم في عام 2014، وأضحك من براءة سؤاله وكأنه يفاصل صاحب محل لينتظر كي يسدد له دينه. فيما يصمت البقية ظنا منهم أنهم يمارسون حكمة خفية لا تفهمها شعوبهم التي تظن أنها تستمد قوة من نموذج سيادة الشعب في تونس.

نعم أطلقت تونس شعلتها بدون قادة وأيديولوجيا وشعارات نعرفها سوى مطلب الحرية والعدالة. فهمنا أن تونس ضد الفساد والديكتاتورية والتوريث والاستغلال، وضد إهدار كرامة وحياة مواطنيها، وكان ذلك كافيا جدا لنفرح ونبتهج ونحلم لها ولنا بعالم جديد ومتحضر وإنساني وعصري وديموقراطى في دنيا العرب الذين طالت عليهم أزمنة الأحزان.

أما ماذا بعد فنتركه للتاريخ كي يكتبه. نتركه لخيارات الشعوب. نتركه للحلم وهو يتقد وندرك بأن المتربصين كثر، غير أن الخائفين على سقوط عروشهم أكثر”. ‏

والآن، بعد تسع سنوات من بداية هذا الربيع الذي اكتسحه الدم والعنف في أغلب منابته، والذي مازال يتنقل بأناقة وشغف عبر هذه الإقطاعيات التاريخية التي عزلتها الجغرافيا والتخلف عن ما حدث للعالم من نقلات كبيرة في القرن الماضي، نعيد السؤال: ماذا بعد؟؟ ولا نملك إلا أن نقول كما قالت ظبية قبل تسع سنوات: ماذا بعد؟ سؤال نتركه للتاريخ وخيارات الشعوب وللحلم … الذي لن ينطفئ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى