مقالات مختارة

جيل الطائفية الثاني

منصور بوشناف

ظهرت الطائفية في الإسلام مبكرًا، وبالتحديد مع الفتنة الكبرى وصراع المسلمين على الخلافة والحكم، واتخذت، في البداية، الشكل الاجتماعي السائد في ذلك الوقت، أي العائلات والقبائل لتتطوّر بعد ذلك وبجهد النخبة في ذلك الوقت أيضًا إلى مذاهب لها أفكارها ومعتقداتها الخاصة التي تبرر وتحمي حقها “كما ترى” في قيادة المسلمين ودولتهم.

أنجبت الفتنة الكبرى قادتها ومجاهديها وعلماء كلامها وشعراءها وحتى منشديها، وشرعوا مبكرًا في بناء قلاعهم الفكرية ليتمترسوا خلفها وتتمترس عائلاتهم وقبائلهم خلفهم ويحولوا الميتافيزيقا والقرآن والأحاديث الشريفة والتاريخ إلى أسوار من الحجج والبراهين التي تكرس حقهم في خلافة المسلمين وقيادتهم إلى قيام الساعة .

تشيع الجميع رغم اقتصار اللقب على طائفة واحدة من الطوائف وأخذت الطوائف شكل الدين بمعناه التوراتي “العقيدة العرق”، فصارت الشيعة أمة يرث أبناؤها مذهبها بالوراثة، وكذا صارت “السنة” وكرّس ذلك بمبدأ تكفير وخروج الطائفة الأخرى وضلالها.

الطائفة؛ صارت دولة “توراتية” لها مواطنوها وأبناؤها، لها حدودها الجغرافية في الغالب ويعيش بعض رعاياها في شتات الطوائف الأخرى مهددين بالتطهير الديني الذي صار عرقيًا.

الشرق الإسلامي؛ رُسمت خارطته الطائفية مبكرًا، كرست الجغرافيا الطائفية له وصارت واقعًا، وبدأ العالم يتعامل معه مبكرًا على هذا الأساس، وشهدت جغرافيا تلك الطوائف كثيرًا من الحروب بينها، والتي خاضتها تلك الطوائف بمنطلق “دين العرق أو الأمة”.

أحد الأسباب الأهم في تكوّن تلك الطوائف؛ كان تمسك خلف قريش والعرب بحق خلافة المسلمين دون غيرهم من القبائل والشعوب الأخرى التي اعتنقت الإسلام.

الأمم والقبائل الأخرى؛ كانت بحاجة لرسالة سماوية لتنهض وتفرض نفسها بين الأمم “كما يقول ابن خلدون”، ولذا أنتجت مفهومها للإسلام وتصورها للخلافة والحكم، وحتى الشعائر الدينية ورسّختها بين أبناء أمتها “طائفتها”.

كانت الطائفة قد تكوّنت “كفرقة” مفتوحة يمكن دخولها واعتناق آرائها لمن شاء من المسلمين لتتحول بعد ذلك إلى “دين توراتي” يرثه الأبناء والقبائل من أسلافهم متنوعي الأصول .

كان نظام الزواج والميراث الذي كيفته كل طائفة وفق مصالحها؛ قد سرّع في عزل كل طائفة عن الأخريات وتحويلها إلى “عرق” يتأصل من جينات الميتافيزيقا !!

الاستعمار الأوروبي، وقد ظل هذا “الأوروبي” وفي أفضل نواياه نحونا، “نيرانَ صديقةً”؛ كرّس هذا وشرعنه، فرفض أحفاد ثورة فرنسا العلمانية أو “اللائكية “مثلاً أن يكون دستور لبنان علمانيًا وديمقراطيًا، بل فصلوه طائفيًا.

كان التقسيم الطائفي قد استقر منذ قرون وترسخ بمفاهيمه وحدوده الأيديولوجية والجغرافية، وظلّ هكذا دونما تغير يذكر، وحلم بعض المسلمين والعرب بتخطيه بالطرح القومي والاشتراكي والعلماني، وفشل كل ذلك، ليظل الطائفي طائفيًا رغم كل الأناشيد والبيانات !!

في العقود الأخيرة، شهدنا نهوضًا إسلاميًا كبيرًا، وصرنا نسمع مصطلحات القرن الأول للهجرة وتجدد الدعوة وخروج الدعاة عبر كل الوسائط يدعون المسلمين للإسلام !

تطور الدعاة سريعًا إلى علماء كلام يناقشون الوجود والعدم وأشكال الحكم والاقتصاد وكل ما ناقشه أسلافهم الأوائل وخرج منهم، وكما حدث في قرون الهجرة الأولى، مفكرون وعلماء وفقهاء، والأهم خرجت فرق عديدة تدعو وتُجنّد المسلمين في صفوفها.

تلك الفرق التي تنغلق الآن على نفسها وتشكّل “غيتوهات” فكرية خاصة بها حتى تجد جغرافيا لها تشكل فيها طائفتها وتكون قادرة على تكوينها كـ”عرق” وكـ”معتقد” يرثه الأبناء من آبائهم، تعيش الآن حالة الشتات تتنقل لتقاتل هنا وهناك بحثًا عن “دار للطائفة” الوليدة.

جيل الطائفية الجديد الخارج من واقع جديد ومستجدات جديدة؛ يصارع، الآن، ليتشكّل ويترسّخ وربما ينجح لو حصل على أرض ليكون تقسيمًا جديدًا وتفتيتًا آخر لكيانات هشة تُعاني ضربات “النيران الصديقة”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى