مقالات مختارة

انتعاش اقتصاد تونس يكمن في السوق الليبية

رياض بوعزة

بصرف النظر عن الصراعات الدائرة بين الطبقة السياسية التونسية وآثارها الكارثية على كافة جوانب حياة المواطنين، وموقفها من النزاع المستمر بين سلطتين تدير الأولى شؤون الدولة من الشرق والأخرى من الغرب في الجارة النفطية، فإن السوق الليبية تبقى متنفسا تجاريا واقتصاديا واستثماريا مثيرا للاهتمام لتونس حتى في ذروة الحرب.

باعتبار العلاقات الاستراتيجية، التي تربط البلدين على مختلف المستويات وخاصة التجارية، وجدت تونس نفسها مجبرة على الانصياع للأزمة الليبية بأشكال عديدة. وقد حاولت الحكومات المتعاقبة منذ 2011 التماهي مع تلك المشكلة والظفر قدر المستطاع بعائدات تملأ بها خزينة الدولة، لكن في الواقع لا يوجد ما يثبت جدوى تلك المحاولات.

المتتبّع لهذه العلاقة يلاحظ أن هناك تأثيرا متبادلا لأحداث أي من البلدين على الآخر وخاصة عند الأزمات، وهناك مقومات كثيرة تساعد على تحقيق التكامل الاقتصادي إذا توفرت الإرادة السياسية، فدولة نفطية مثل ليبيا يمكن أن تستفيد من تونس بشكل مستدام إذا ما تم تبني شعار “النفط مقابل السلع والخدمات”.

تاريخيا، ليبيا تعد الشريك الاقتصادي رقم واحد لتونس في المغرب العربي، وهي تحتل المركز الخامس بعد فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا، وذلك استنادا إلى تقارير البنك الدولي، فالسوق الليبية تستوعب قرابة 70 في المئة من حجم الصادرات التونسية سنويا، باستثناء التهريب والتجارة الموازية اللذين يشكلان أكثر من نصف المبادلات التجارية.

قبل الإطاحة بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي كان رقم المعاملات التجارية بين البلدين يتجاوز في المتوسط حاجز 3 مليارات دولار سنويا، لكنه لم يصل إلى ربع ذلك المبلغ عقب الإطاحة بمعمر القذافي. ويعود ذلك إلى أن النظام السياسي السابق في تونس استطاع خلال أكثر من عقدين كسب ود النظام الليبي، الذي ساند وصول بن علي إلى السلطة.

الأرقام المسجلة خلال فترة بن علي والقذافي هي نتاج طبيعي لاتفاقية التبادل التجاري الحر الموقعة بين البلدين في 2001، كونها تشمل حزمة من الحوافز والامتيازات رغم أن تنفيذها كان يتعلق أحيانا بمزاجية القذافي. وحتى الآن، لا يمكن الجزم بأن الاتفاقية سارية المفعول لغياب المعطيات الرسمية المدعمة بالبيانات وذلك نتيجة التشرذم السياسي في الدولتين.

عند تسليط الضوء على المسار التجاري، نجد أن الخسائر، التي تكبدتها تونس جراء الحرب في ليبيا كانت مدمرة وتسببت في فقدان المليارات من الدولارات طيلة تسع سنوات باعتبار أن المبادلات هي نقطة الضوء الأبرز لوجود معبرين مهمّين هما رأس جدير، الذي يبعد عن العاصمة الليبية طرابلس 175 كلم، أما الثاني فهو معبر وزان ذهيبة.

بحسب البيانات التقديرية، فإن أكثر من 1300 شركة تونسية تعمل في قطاعات تجارية وخاصة المواد الغذائية، ويتراوح رقم معاملاتها بين 50 ألف دينار (17.5 ألف دولار) وأكثر من خمسين مليون دينار (17.5 مليون دولار) لحقتها أضرار بالغة جراء توقف التبادل التجاري مع ليبيا. ولحد الآن تعاني من مشاكل نتيجة عوامل داخلية وخارجية جعلت بعضها يغلق أبوابه.

ولكن تجارة السلع ليست الوحيدة التي يمكن استغلالها، فتونس بإمكانها الاستفادة أكثر ما يمكن من قطاع الطاقة الليبي من خلال الربط بأنابيب الخام والغاز مع جارتها حتى تكبح أكثر ما يمكن عجز الطاقة الذي يشكل ثلث وارادات البلاد كل عام، أي بأكثر من ملياري دولار. ومع أن مثل هذه المشاريع تحتاج إلى الاستقرار الأمني، إلا أن المصلحة تقتضي أحيانا تخطي هذه العقبة.

إن إبرام شراكة استراتيجية في مجال الكهرباء تتضمن إعادة بناء محطات التوليد المدمرة في ليبيا وتبادل الفائض عبر خط الربط الموجود حاليا وتعزيز قوته، يعتبران مدخلا حيويا لتونس من أجل تقليص النفقات السنوية المقررة في الموازنة على بند الكهرباء نظرا للبنية التحتية المتوفرة بالبلاد.

وحتى شركات التطوير العقاري وشركات الإسمنت التونسية، التي تضررت بشكل كبير قد تعود إلى الحياة مجددا إذا أزيلت بعض العقبات. وتشير التقديرات إلى أن نسبة خسائر تلك الكيانات تختلف من شركة إلى أخرى، ولكنها في المحصلة تجاوزت سقف الملياري دولار على اعتبار سعر صرف الدينار أمام الدولار حين اندلعت شرارة الأزمة الليبية في فبراير 2011.

يمكن لتونس، بما يتوافر لديها من إمكانيات بشرية وخبرات تقنية في كافة المجالات أن تسهم بقدر كبير في بناء ليبيا، الأمر الذي سيساعد على تجاوز الكثير من المشكلات الاقتصادية المزمنة وخاصة تلك المتعلقة بمستويات البطالة وفتح المجال للشركات للاستثمار في ليبيا.

في المحصلة، إن نموذج الشراكة الذي يطمح إليه البلدان لن يكتمل إلا بانتهاء الأزمة السياسية والعسكرية في ليبيا، ومن ثم بتفعيل قرابة ثمانين اتفاقية مشتركة، باعتبارها القاعدة الرئيسية، وذلك استكمالا لمبدأ التكامل الاقتصادي، الذي لم يتحقق حتى اليوم بشكل فعلي رغم المحاولات الشاقة منذ سنوات طويلة.

المصدر
العرب
زر الذهاب إلى الأعلى