مقالات مختارة

رهان تونسي ليبي على نموذج شراكة جديد

نموذج الشراكة التونسية الليبية الذي يطمح إليه المسؤولون في البلدين لن يكتمل إلا بتفعيل الاتفاقيات المشتركة السابقة والبالغ عددها 80 اتفاقية.

رياض بوعزة

السياسيون في تونس وليبيا فهموا متأخرا أنه لم يعد هناك المزيد من الوقت حتى يتم إنقاذ ما تبقى من اقتصادي بلديهما المنهكين، في ظل الأوضاع السياسية القاتمة، لينتهزوا الفرصة للانتقال إلى مرحلة إحياء شراكتهما التجارية التاريخية في كافة المجالات على أسس مستدامة تساعدهما في الخروج من نفق الأزمة سريعا.

ومع أن العراقيل كثيرة ومزعجة، فإن للبلدين رؤية موحدة في الوقت الحالي لجعل المنطقة التونسية الليبية وجهة اقتصادية مستقبلية ترتبط مع بلدان أخرى من أجل توحيد العلاقات التجارية في حوض البحر المتوسط.

ويتوقف تفعيل تلك المبادرات التجارية على الإرادة الجادة للمسؤولين التونسيين والليبيين، حتى يتمكنوا من وضع قدم على درب الابتعاد عن شبح الإفلاس وإعطاء نفس جديد للشراكة الاقتصادية.

إن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي أثرت على الحياة المعيشية للمواطنين، فرضت على سلطات البلدين تبنّي نموذج شراكة استراتيجية جديدة للخروج سريعا من الأزمات المتتالية الخانقة وإنقاذ الأوضاع المعيشية السيئة للناس من الانهيار التام، وهو ما تجسد بالفعل في تأسيس مجلس الأعمال التونسي الليبي، الذي عقد قبل بداية الأسبوع الماضي، منتدى اقتصادي للدولتين في العاصمة طرابلس لوضع خارطة طريق مشتركة.

النموذج الجديد يركز بشكل رئيسي على مجالات واعدة، بحيث لا ينظر التونسيون إلى الجار الليبي على أنه مجرد دولة حدودية يتم تزويدها بما أمكن من يد عاملة بهدف امتصاص البطالة التي تفشت في سوق العمل التونسية بعد عام 2011، وألّا ينظر الليبيون، في المقابل، إلى جارتهم الصغيرة على أنها مجرّد مقصد للسياحة والعلاج فقط.

هناك مؤشرات على وجود إرادة سياسية لإعادة الروح إلى التعاملات التجارية وتعزيز قطاع السياحة، على وجه التحديد، ومن الواضح أن الأمر انتقل إلى مرحلة التطبيق على أرض الواقع، بقرارات سيتم تفعيلها خلال أسابيع قليلة.

ولعل عودة رحلات الخطوط التونسية، الغارقة في الديون منذ عام 2011، إلى الوجهات الليبية، سيكون مفتاح تعزيز العلاقات الاقتصادية، بعد أن علقت الشركة المملوكة للدولة رحلاتها إلى ليبيا عقب تصاعد المعارك بين الميليشيات في الشرق والغرب، فضلا عن الحرب على المتطرفين في عام 2014.

لقد اتخذت الحكومة التونسية خطوات جادة على الفور إثر انتهاء فعاليات مجلس الأعمال المشترك حتى تستأنف الخطوط التونسية رحلاتها إلى طرابلس كمرحلة أولى نهاية الشهر الجاري، وذلك في انتظار توسيع رحلاتها إلى مدن ليبية أخرى، بحيث ستكون الدافع الأول لعودة العلاقات التجارية كما كانت في السابق وربما تعزيزها.

المشكلة أن التونسيين يرون ليبيا مجرد سوق للعمالة، وينظر الليبيون إلى تونس على أنها مقصد للسياحة والعلاج فقط

ووفق إحصاءات رسمية، كان يتوافد على تونس سنويا قبل الاضطرابات في 2011 أكثر من نحو 1.5 مليون ليبي للسياحة أو العلاج، وقد تراجعت أعدادهم في السنوات الثلاث الأخيرة بشكل ملحوظ، كما أن التونسيين كانوا يتوافدون على ليبيا للعمل هناك قبل توقفهم عن السفر إليها نظرا إلى الوضع الأمني المتوتر.

البلدان يراهنان كذلك على مجموعة أخرى من الشراكات من خلال تعزيز المبادلات التجارية وتطوير قطاع الصحة والدخول في شراكات جديدة بين المستثمرين التونسيين والليبيين لتنفيذ مشاريع البناء والتشييد الكبرى بليبيا، باعتبارها خطوات محورية اتفق عليها الجانبان خلال مجلس الأعمال المشترك من أجل النهوض بالعلاقات الاقتصادية.

ويبدو أنه من المهم للبلدين في الوقت الحالي، العمل بجدية واصرار معا على مستوى رجال الأعمال التونسيين والليبيين لولادة علاقة تكاملية وتشاركية أكثر مرونة وأكثر استدامة تجعل منهما قطبا اقتصاديا سواء على الجانب المغاربي أو الأفريقي لإعطاء نفس جديد للاستثمارات المشتركة في المستقبل.

ولكن تبقى مسألة تعزيز التعاون في المجال الصحي مؤجلة حتى تتم تسوية ديون الليبيين لدى المستشفيات التونسية الخاصة رغم أن المجلس الرئاسي الليبي أعطى في الشهر الماضي، بارقة أمل لتلك المستشفيات حينما تعهد بتسديد مستحقاتها البالغة نحو 200 مليون دينار (77.8 مليون دولار) بحسب بيانات غرفة المصحات الخاصة في تونس، كانت السلطات الليبية قد تخلفت عن سدادها في السنوات الخمس الأخيرة.

وستكون الإمدادات النفطية الليبية في قلب حراك الشراكة الجديدة، حيث تسعى ليبيا العضو في منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك)، إلى زيادة صادرات الخام لتعزيز عوائدها المالية رغم الاتفاق المبرم بين أوبك ودول من خارجها لتقليص الامدادات في الأسواق العالمية بهدف تعافي الأسعار التي تراجعت منذ منتصف 2014.

وفي المقابل، ستكون تونس بالنسبة إلي ليبيا الوجهة الأمثل لها الآن لا سيما وأن تونس تعاني منذ أكثر من أربع سنوات من عجز كبير في الطاقة، وقد تلجأ إلى زيادة الأسعار مرة أخرى حتى تستطيع مواجهة الخلل في التوازنات المالية.

العلاقات التجارية الليبية التونسية مرت بمراحل تاريخية كثيرة منها ما هو مقنن ضمن القنوات الرسمية ومنها ما يتم في السر عن طريق التهريب، الذي ازدهر على الحدود، في ظل الاضطرابات التي شهدتها ليبيا، وهو ما أجبر تونس على إغلاق معبريها التجاريين رأس جدير وذهيبة ممّا ألحق أضرارا كبيرة باقتصاد البلدين.

وقد أظهرت بيانات رسمية وتقارير دولية أن هذه الظاهرة المتفشية بين الجارين استنزفت اقتصادي البلدين بشكل كبير للغاية منذ عام 2011، وهناك مساع حكومية بطيئة في تونس للحد منها، ولكن في ليبيا لا تزال حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا بعيدة عن إحكام السيطرة على الأوضاع.

وفي المحصلة، فإن نموذج الشراكة التونسية الليبية الذي يطمح إليه المسؤولون في البلدين لن يكتمل إلا بتفعيل الاتفاقيات المشتركة السابقة والبالغ عددها 80 اتفاقية، باعتبارها القاعدة الرئيسية، التي من المفترض أن تبنى عليها الاتفاقيات الجديدة المبرمة بين البلدين، وذلك استكمالا لمبدأ التكامل الاقتصادي، الذي لم يتحقق حتى اليوم فعليا رغم المحاولات الشاقة منذ سنوات طويلة.

المصدر
العرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى