كتَـــــاب الموقع

المرأة في أدب كافكا

عمر أبو القاسم الككلي

تتميز كتابات فرانز كافكا (1883- 1924) بانتمائها إلى مناخات كابوسية أو، على الأقل، مناخات حلمية بعيدة عن أن تكون مريحة. وبالتالي فإن منطقها، في العموم، منطق الكوابيس والأحلام، حيث تغيب قوانين الواقع وإلزاماته وتنحل شروط المنطق، فنلتقي في بعض القصص بحيوانات تتكلم، بل وتحاضر، في انضباط أكاديمي ومعرفة محيطة ووضوح لافت، في مواضيع فكرية معقدة. وهو يلتقي مع الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس في غرابة العوالم القصصية وأن عددا معتبرا من قصصه يتخذ شكل المقال.

يرى جون أبدايك أن القرن الذي انقضى منذ ميلاد كافكا “اتسم بفكرة ‘الحداثة‘ وهو قرن واع بذاته بين غيره من القرون، واع بأنه جديد”1 وقد أسهم كافكا، حسب أبدايك، خلال السبعين عاما التالية لوفاته في تعميق “هذا الجانب من منظومة العقل الحديث: أي الإحساس بالقلق والعار مجهولي المركز، وعليه يستحيل استئناسهما، الإحساس بالصعوبة غير المحدودة الكامنة في الأشياء التي تعيق كل خطوة، الحساسية الثاقبة المتجاوزة للمنفعة، كما لو أن الجهاز العصبي قد سلخ عنه جلده المتكون من المقبولية الاجتماعية والمعتقدات الدينية، وأنه قيض له أن يسجل أية لمسة على أنها وجع”. ويصف أبدايك تأثير هذه الحالة، البالغة الأصالة والشديدة الخصوصية لدى كافكا، على البعد الفني في أدبه بأن “هذه النوعية المخيفة تمتزج برقة هائلة، وروح دعابة جيدة غير عادية، ولياقة formality وطيدة، واثقة وباتة”. وعلى هذا الصعيد يصف أناتول برويارد مجموعة قصص كافكا الكاملة بأنها “موسوعة تحتوي إحساساتنا بالقلق ومحاولاتنا الشجاعة لمعاندتها”1.

*

لكن ما لفت نظري في ما قرأت من أعمال كافكا، هو طبيعة حضور المرأة في هذه الأعمال. فنحن نلتقي بالمرأة الأم والأخت والخادمة والزوجة، وحتى المغنية. لكن هذا الحضور عابر، مهما كانت المساحة التي يحتلها من العمل. فالمرأة في أعماله هي مجرد “نوع آخر من البشر” يختلف عن نوع الرجل دون أن تربط بينهما علاقات خاصة لها تجاذباتها، وتعقيداتها. إذ لا نلتقي، إطلاقا، بالمرأة “الأنثى”. فأعماله تخلو من الوصف المتأني لجسد المرأة وفتنته ويغيب وصف تأثير حضورها الأنثوي، ويغيب أيضا التغزل ببهائها والتنعم بحضورها غيابا مبرما، كما يغيب الانهمام بها والتوق إليها. وبالتالي لا نجد لديه قصص حب وغرام، لكأن شخصياته، رجالا ونساء، خلو من الرغبات الحسية والشهوانية المتعلقة بفوران الجسد وصبوات الغريزة. رغم أن كافكا كان قد خطب مرتين، وعاش حالة حب مضطربة مع ميلينا يزينسكيا المتزوجة، مترجمة كتبه إلى التشيكية، وثمة في رسائله إليها ما يشير صراحة إلى أنهما تطارحا الغرام. كما أنه تعرف إلى دورا ديامانت قبل سنتين من وفاته ووقفت إلى جانبه حينما كان في المصحة التي مات بها.

ويبدو لي أن غياب الأنثى من أدبه عائد إلى الأسباب التالية:

1- أن غياب هذا الملمح يمثل خاصية من خصائص الكابوس.

2- أن البعد الكابوسي ناجم عن طبيعة شخصيته المضطربة. يقول في إحدى رسائله إلى ميلينا: “أحيانا لا أفهم كيف اكتشف البشر فكرة ‘‘البهجة‘‘ ربما كان قد تم تقديرها على أساس أنها نقيض للحزن”2. كما يقول: “ولا ثانية هدوء واحدة قد ظفرت بها، لم أنل شيئا”. وفي إحدى يومياته يعبر عن أن زمن الحب قد فاته قائلا: “إنني أبعد عن هذا غاية البعد، إنني منفي طريد بعيد عن هذا”. لقد “كان كاتبا يحترف تعذيب نفسه (قربانا) للإبداع”.

3- وتجد هذه الشخصية المضطربة جذورها العميقة في الشخصية اليهودية القلقة التي يغيب عنها الأمان بسبب وضعها في التاريخ الأوربي ومناخ معاداة اليهود الواضح في ألمانيا حينها. فـكافكا “عاش… سجينا لجذوره اليهودية، مرتبطا بالخطيئة والفشل والموت، حالما معذبا في (هبوطه إلى القوى المظلمة)”.

4- معروف أن كافكا كان مصابا بالسل وقد مات به، ولابد أن هذا قد أثر على نفسيته وجعلها تحتشد بالمخاوف واليأس.

المراجع

1- مقدمة كتاب: فرانز كافكا: القصص الكاملة. Franz Kafka, The Complete Stories, Schocken Books, New York, 1971.

2- فرانتس كافكا: رسائل إلى ميلينا، ترجمة: الدسوقي فهمي، آفاق للنشر والتوزيع، القاهرة، 2017. وكل الاقتباسات اللاحقة من مقدمة مترجم الكتاب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى