مقالات مختارة

القدّيس و الوليّ

محمد يوسف الوحيدي

السّعي نحو التميز ، و الكمال ، غريزة لدى البشر ، و يبدوا أنها أصل من أصول التكوين ثنائي الهوية لكل نفس أو شخص ، الخير و الشر ، الملاك و الشيطان . صراع القطبين باقٍ ، ما بقيت الدنيا .. و أقرب سلاح للشِّق السئ الشرير ، هو الشق الملائِكي ، لذلك تجده يحاول أن يتقمَّصه – شكلاً – ليحقق مآربهُ شيطانية المضمون ..
مَن مِنّا لا يعرف أن إبليس الرجيم الطريد ، كان في صفوف المُسبِّحين و الملائكة قبل أن يصل إلى قراره في فسحة التخيير التي منحها الله للمخلوقات و اختار العلو و الغلو و التَكبُّر ، مُستخدماً وضعه بين صفوف الملائكة ، ليفوز بالسيادة ، و الإصطفاء التي قرر الإنسان أن يحملها .. فكان ظلوماً جهولاً ، و يبدو أن قرار الإنسان في عملية التخيير ، قد بنيت و إرتكزت على صفات الجانب الشرير والتي هي أقرب إلى صفات إبليس منها إلى صفات الملائكة التي يحملها أيضاً . لذلك ، و بعد أن تم طرد إبليس لما ابداه من حقد و تكبر ، ما لبث أن هبط الإنسان هو الآخر بسبب ما أبداه من نزوع للخلود و حبٍ للشهوات .. لتبدأ قصة الحياة ، و الصراع بين الشيطان بصفاته الشريرة الخالصة ، و الإنسان بصفاته المقسمة مناصفة بين النَّجدين : الخير و الشر . بين الملائكية و الشيطانية ، و كلاهما منذ الأزل يستخدم ما زُرع فيه ، أو ما عرفه وجربه في الحياة الطاهرة السامية الملائكية ، مرتدياً قناع الملائكة لتحقيق رغباته الأنانية و أهدافه الشريرة .
لذلك تجد دائماً أن الشيطان لا يستخدم الترهيب و التنفير أو الضغط و القهر في دفع الإنسان لترك جانب الملائكية فيه و النزوع إلى جانبه الشيطاني ، بل يستخدم التزيين و الدغدغه و الوعود و اللطيف من القول و اللذيذ من الإحساس ، بالهمس و الغمز و الوسوسة . ( وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ) سورة النمل- (24). ( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۖ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) سورة فاطر- (8). ( فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) سورة الأنعام- (43). و غيرها الكثير من الآيات .
فإدعاء النصح ، و الرغبة في تقديم الخير ، و الحكمة ، هو أحد ، بل ربما هو أهم الأساليب الشيطانية ، للوصول إلى مآرب و أهداف لا علاقة لها بالخير و لا بطريق الله من صلة . مثل ” نصيحة ” أبليس لأبو البشر آدم و كأنه يريد أن يدله على خير ما بعده خير ، و ملك لا يبلى ، و خلود ، و لاحظ هنا أن إبليس بدأ الوسوسة ب (هل ؟ ) كأنه يستأذن ولا يضغط و لا يفرض ، أو كأنه يحفز و يثير الرغبة و الفضول الغزيزي لدى آدم، فيجره إلى القيام بأخذ المبادرة في الإرادة أولاً ، ثم المشيئة ، و المشيئة ليست من صفات العلوية ولا هي من مركبات ناموس عالم الأمر ولابد لها حتى تتشيأ أن تهبط بالمريد إلى عالم المشيئة حتى تتحقق : ( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ ) سورة طه- (120).
و بنفس طريقة ابانا آدم عليه الصلاة و السلام ، إستمر البشر على مدى الدهر ، و سيستمرون أبداً ، في إرتكاب الخطأ ذاته ، كيف لا ، و هم يعرفون أن ( دعوة الشيطان الهادئة اللطيفة) ، هي ليست إبتكاراً منه ، و لا هي ( صناعته بتوقيعه ) ولكنها في الحقيقة نزعة و غريزة موجودة أصلاً في ذات البشر ، و كل ما يفعله الشيطان هو أنه يثيرها ، و يشجعنا على إتيانها ، بتبريرات و شروحات و تذاكي و تحايل .. ونحن نحب هذا النوع من ( الدعوة و الدعاة ) ، نحب أن نرى عناوين مطمئنة ، و نشاهد صوراً مسكنة ، و القاباً مقنعة ، نحب أن ننخدع ، و نساعد من يخدعنا بما هو منزرع فينا أساسا ، في تكويننا ، من زيف و خداع و شر ، و نفس أمارة بالسوء أصلاً ..
هذه النفس تتوق لمن يساعدها في إرتكاب ” الجريمة الكاملة اللذيذة ” جريمة خداع و تضليل الذات. لذلك تجدنا نخترع الألقاب و المناصب ، و الأشكال و الأزياء ، لتضفي شكلاً مقنعاً ، و لتعطي لأنفسنا الإيحاءات اللازمة لتمام الإجهاز على نوايا الخير ، و دفع قوى الشر فينا إلى الظهور ، و من ثم تبرير أعمال الشر و الخطيئة لأنفسنا عبر ما إخترعناه و رسمناه و كذبناه وكررنا الكذب حتى صدقناه ، بل آمنا به ..
لذلك عمد البشر إلى الإلحاح بطلب الإثبات و الإعجاز من رسل الله و أنبيائه ، حتى يصدقونهم ، يريدون أن يروا و يلمسوا مظاهراً يحدثون بها عقولهم و أنفسهم .. و رغم كل ما ورد في الكتب السماوية ، من معجزات ، و شواهد إلا أن قليلا من البشر إتبع الرسل .. و فضل أن يخلق البشر لأنفسهم ، بأنفسهم ، أدياناً ،و آلهة ، و نواميس ، و يُنصِّبُون عليهم شُخوصاً يقدسونهم ، و يهابونهم ، و يعبدونهم .. وبهذا فرض الإنسان من حيث لا يدري ، أو يدري ، مقاييسه و قوانينه في تحديد من هو القريب من الله و من هو القديس و الطاهر ، و من هو الكافر و الزنديق و المارق و الفاسق .. و اصدر الأحكام ، و حدد شكل الثواب و العقاب ، و لم يبق لله ( حاشاه ، عز وجل ) إلا تنفيذ إرادته و قراره .. !!
فقد إصطلح منذ القدم لدى كثير من الديانات التي تعرضت كما يتعرض الإسلام للتشويه و العبث و سطوة الموروث ، و حكايات روايات الرواة ، و من تم تنصيبهم ليكونوا أهل القداسة و أهل الدين ، أقول إصطلح على لقب القديس، و عرفوه بأنه هو كل شخص عاش الفضائل الإلهية في الإيمان والرجاء والمحبة، خلال حياته على الأرض “ببطولة”، فيمكن اعتباره بعد تحقيق دقيق في سيرة حياته، علمًا من أعلام الدين و”سعيدًا مغبوطًا من الفردوس بناءً على الوعود الإلهية المسبقة”.و تشترط الكنيسة ورجالها ، في بعض الحالات تأييد التحقيق بمعجزة – كأن تكون علاجاً لأمراض عجز الطب عن حلّها – لإعلان القداسة، وإلا تكتفي بإعلانه طوباويًا. و كلمة قديس تعني كتابياً “المفروز أو المتقدس لغاية معينة”، وكل من نال سر العماد، مدعو للقداسة. وهو ما إنتقل إلى المسلمين نتيجة إعجاب الطبقة السياسية ، و إختبارها لنتائج هذا ( التصنيف ) و أثره في إطلاق الهيمنة و غسل الأدمغة الجمعي ، بحيث يستخدم فيما بعد في الحكم و السياسة .. فكان العارف بالله ، و شيخ الإسلام ، و آية الله العظمى ، و غيرها من الألقاب التي تنوعت بتنوع الطائفة و المجتمع و الحاجة و كلما غالت طائفة بتسمياتها ، زاودت عليها أخرى بتسميات أكثر قداسة ، وجلالة .. وحسب المعتقدات المسيحية، فإن العلاقة بين المؤمنين الأحياء والأموات لا تنقطع روحيًا، ولذلك فإنّ من “استراح سعيدًا بعد وفاته” أي القديس يصلّي لأهل الأرض، وطلب شفاعته، أي صلاته وتضرعه إلى الله، ممكن، وعلى هذا الأساس يقوم مفهوم قديس شفيع. و التبرك به حتى بعد موته ، و هذا أيضاَ ما إنتقل إلى المسلمين و إنتشر بالتضرع إلى أضرحة الأولياء ، و العارفين بالله و أصحاب الخطوة ، و المباركين ، و المشايخ و أئمة الطرق و المذاهب ، و سلالة النبي و غير ذلك .. في المسيحية من الممكن تكريم القديس سواءً من خلال التكني باسمه، أو تشييد الكنائس على اسمه، أو تكريم أيقوناته، أو رفاته، غير أن التركيم من بابا الاقتداء والتمثّل لا يعني أبدًا العبادة، ويعلّم يوحنا بولس الثاني بأنّ “الكنيسة في إعلان تكريم وقداسة أبنائها وبناتها، هي عملياً تؤدي التكريم السامي إلى الله نفسه منبع كل قداسة”، ومن الممكن أن يكون القديس من جميع الأعمار أو الأجناس، أو الوظائف والمهن الاجتماعية وليس الكهنة والرهبان فقط. وهذا بالضبط ، إنتقل لطوائف المسيحية من طوائف دينية أخرى عبر التاريخ ، و في الأصل هي مفاهيم إنتقلت من اليهودية إلى المسيحية ، ومن اليهودية و المسيحية ، إلى المسلمين ، و تم ترويضها و إستغلالها لذات الأغراض الحيانية و السياسية و الإدارية .. و بالتقليد أيضاً تم تحديد الأزياء لرجال الدين المسلمين ، تماماً كما يفعل رجال الدين في المسيحية و اليهودية ، و قبلهم في ديانات و مناهج و ملل أخرى . و أول خطوات نجاح هذه الحيلة ، هي نسف الفرق بين عالم الدين ، و المتدين ، و هذا هو افسلام الحقيقي القويم ، الذي لا يميز بين إنسان و آخر بالشكل و لا يحكم على مكنونات انفس و القلب ، و يرفع هذا إلى تقدير و حكم الله تعلى وحده ، و لا حتى أولياء الله ، الذين ذكروا في القرآن الكريم ، فهم بشر لا يعرفهم و لا يحدد كونهم أولياء و مقربين إلا الله تعالى ، الإسلام الصحيح يقرر أن العلم بالشئ لا يعني إقتناعاً أو إيماناً زائداً مُمَيِّزاً، و لا يعطي صاحب المعرفة قدراً أخلاقياً أو روحياً أرفع من غيره ، قد يعطيه درجة ” علمية” ترفعه من حيث المعرفة و القدرة ، و لكنها لا تزيده شيئاً من الروح إلا إذا وقر ما يعرف في قلبه فزاد مساحة الروح لديه ، ولا يعرف و لا يحكم بهذا غير الله وحده.
إن نسف فكرة القديس ، و الولي ، هي أولى خطوات الإستقامة ، و السير على المسار الصحيح إذا إردنا لأنفسنا و مجتمعاتنا أن تتقدم ، فالقديس و الولي ، أشخاصاً كانوا أم جماعات و أحزاب ، تتسع دوائر قداسة أحكامهم لتشمل الحياة كلها , السياسة ، و عندها سيجد النناس أنفسهم أمام حالة مقدسة فوقية لا يجوز أن تتم مساءلتها أو مراجعتها ، لأنها تحكم بإرادة الله ، و تمثل قداسة علوية .. وهذا ما نراه اليوم حولنا بنسب متفاوته في أحزاب و حركات و جماعات ، و من رجال بمجرد أن يلبسوا أزياء ( الدين ) و يعتمرون العمامة أو التاج المقدس ، إرتفعوا ، أو رفعناهم نحن إلى مصاف القداسة و الولاية ، و سمحنا لهم أن يحكموا عقولنا و حياتنا ، و يديروا شأننا الخاص و العام .. نحن من يصنع الأصنام .. و نحن من عليه أن يحطمها .

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى