مقالات مختارة

استئناف الحكم… بعد الموت!

عادل درويش

 

حكم القاضي بيتر جاكسون، في المحكمة العليا الإنجليزية، بالإذن لمستشفى بإطفاء ماكينة دعم الحياة لمريضة. أي إيقاف مجموعة الأجهزة الإلكترونية التي تقوم بوظائف الجسم الفسيولوجية وتزويد أنسجة الجسم بالتغذية.
الماكينة أبقت مريضة كانت في شبه غيبوبة على قيد الحياة لأعوام عدة، لكن القضاء أنهى حياتها بعد أن يئس الطب والعلم من شفائها، أو حتى إدخال أي تحسن على حياتها.
أود مشاركة القارئ العزيز في بضع ملاحظات، لاستخلاص دروس يمكن تعميمها على قضايا مشابهة.
ولي أمر المريضة (غيبوبتها تعجزها عن تولي أمورها قانونياً) في هذه الحالة ابنتها، هي التي طلبت من الأطباء إطفاء الأجهزة.
الحكم صدر قبل بضعة أسابيع، لكن استغرق القاضي صياغة حيثيات الحكم فترة طويلة؛ فلم تصدر إلا هذا الأسبوع، ووصفها القانونيون «بحكم قضائي بمثابة علامة على الطريق».
لا يوجد في بريطانيا دستور يحدد القوانين المكتوبة كما هو حال القضاء الفرنسي الذي ينظمه الدستور (وأخذت عنه مصر في دستورها في 1923، وما صدر بعد ذلك وأخذت معظم البلدان العربية عنها).
غياب اللائحة القانونية المحددة سلفاً يؤدي إلى نزاعات ويكون الفصل للقضاء.
لذا؛ تعتبر الأحكام القضائية في بريطانيا سوابق يعود إليها القضاة لتوجيه المحلفين في قضايا لاحقة، وهي إحدى إيجابيات المنظومة القانونية القضائية البريطانية.
غياب الدستور والقوانين المحددة سلفاً، يوفر مرونة التطور والتعديل لملاءمة العصر والتطورات. فاكتشافات الطب الحديث في السنوات الأخيرة تبقي مرضى على قيد الحياة بشكل لم يتصوره واضعو لوائح تنظيم الممارسات الطبية قبل عقود.
ومثلاً، الأحكام القضائية حول نزاعات الإنترنت وحقوق النشر على المواقع كان معظمها تفسيرات عصرية لقوانين البريد من القرن الـ18، وأصبحت سوابق يرجع إليها.
ولأن الحكم الأخير يتعلق بإنهاء حياة مريضة وسيصبح سابقة قضائية؛ رأى القاضي ضرورة التأني وكتابة حيثيات الحكم بدقة وقواعد لغة مفهومة، وأخذ مكان كل نقطة وفاصلة في الجملة في الاعتبار.
ما اعتبرته الصحافة علامة على الطريق القضائي، هو تصريح القاضي بأن الأمر لم يكن يجب أن يرفع للقضاء أصلاً طالما أنه لا خلاف بين الأطباء وإدارة المستشفى في ناحية، وبين «ولي أمر المريض» في ناحية أخرى.
فلماذا نظرت القضية أمام المحكمة إذن إذا لم يتفجر خلاف؟
قد لا يكون هناك خلاف بتعريف المحامين، لكن هناك خلافين أساسين بتعريفات أخرى.
ما يعرف في الطب بالقسم الهيبوقراطي Corpus Hippocraticum، الذي يحدد أخلاقيات مهنة الطب، الذي يفجّر النزاع داخل ضمير الطبيب نفسه.
الطبيب هنا يجرد نفسه من العواطف والمعتقدات دينية كانت أو سياسية أو آيديولوجية، فغايته معالجة المريض وإبقاؤه على قيد الحياة.
لكن تطورات تكنولوجيا الطب الحديث بعد ألفي عام من القسم الهيبوقراطي، جعل تعريف «البقاء على قيد الحياة» بالغ الصعوبة.
تعريف الموت طبياً يختلف عنه قانونياً، والأخير بدوره يختلف من بلد إلى آخر حسب القوانين.
ويختلف الأمر بين الأطباء في ناحية وأهل المريض في ناحية أخرى.
بل يختلف الأمر داخل المستشفى؛ فقد ينظر طبيب بعين العلم المجرد، ويسلخ الأمر من أي اعتبار آخر سواء التكلفة الاقتصادية للآلات، أو أن المريض الميئوس من شفائه يحتل سريراً وإمكانات يمكن توفيرها لعلاج مرضى عدة في الفترة نفسها؛ ناهيك عن المعاناة العاطفية لأسرة المريض نفسه.
هذا التشعب في الخلافات ووجهات النظر، دفع الأطراف المختلفة، رغم اتفاقها الكامل على إطفاء الماكينة وغياب أي نزاع، إلى اللجوء للقضاء للتصديق القانوني على ما اتفقوا عليه. فالقانون في بريطانيا هو السيد فوق الجميع وهو الفيصل.
كما أن ذلك فيه حماية لكل الأطراف، إذا ما أثار رجال الدين مثلاً (أو إحدى المنظمات الإنسانية أو قريب على خلاف مع الابنة) الأمر في الصحافة واتهموا المستشفى بإنهاء حياة المريضة لأسباب اقتصادية.
في هذه الحالة إذن، هل يعتبر إصدار القاضي حيثيات الحكم، وتوجيهه بأنه في المستقبل، لا ضرورة لرفع الأمر للقضاء إذا اتفق جميع الأطراف (إدارة المستشفى، والأطباء، وأهل المريض) على أن الحالة ميئوس منها، ولا بد من إطفاء الماكينة، هل يعتبر الأمر منتهياً، ويمكن إدراج الحيثيات في كتب فقه القانون كسابقة قضائية؟
الإجابة معقدة.
فإذا لم يعترض أحد وانتهى الأمر على ذلك تكون الإجابة بنعم وتعتبر سابقة قضائية.
أما إذا استأنف طرف ما الحكم، فستنظرها محكمة الاستئناف، وقد ترفع بعدها للمحكمة السامية، أو محكمة حقوق الإنسان الأوروبية.
الحكم صدر قبل فترة طويلة، والاستئناف لن يعيد الحياة للمتوفاة، ولم يحدث نزاع بين الورثة أو أي أطراف، فما هو بالضبط الذي يمكن الاعتراض عليه للاستئناف؟ ومن سيعترض؟
بخلاف نزاع أسرة المريض مع الأطباء حول عدم توفير ماكينة الحياة هناك طرف آخر… أغلب الظن أنه سيستأنف الحكم: التاج (أي الدولة).
التاج في بريطانيا أسس قبل سنوات ما يعرف بمحكمة حماية المريض.
مؤسسة قضائية تمثل المريض والدفاع عن مصالحه نيابة عنه، سواء كان هذا المريض جنيناً تريد أمه إجهاضه، أم رضيعاً غير قادر على التعبير عن نفسه، أم شخصاً عاجزاً عن الكلام.
محامي الحكومة، الذي يمثل أيضاً محكمة حماية المريض، سيطالب بالاستئناف؛ ليس من أجل إعادة متوفاة للحياة، بل لضرورة تغيير صياغة حيثيات الحكم. وأغلب الظن أنه سيطالب من محكمة الاستئناف تعديل توصية القاضي جاكسون بعدم ضرورة رفع الأمر للقضاء إذا اتفق الأطراف على إنهاء نشاط آلات إبقاء المريض على قيد الحياة في حالة اليأس من شفائه.
السؤال: لماذا؟
والإجابة، لأن إبقاء حيثيات الحكم بصيغة التوصية الحالية، يناقض جوهر مرونة مؤسسة القانون الإنجليزية المبنية على غياب دستور مكتوب ولوائح ثابتة محددة.
فأغلب الظن أن الطب سيتقدم باكتشافات علمية تزيد تعريفات «كالبقاء على قيد الحياة» و«ميئوس من شفائه» تعقيداً.
بل وأن معنى تعبير «شخص غير قادر على التعبير عن مصالحه وحاجاته» يتغير بتقدم وسائل التعبير الإلكترونية (كحالة البروفسور ستيفن هوكينز الذي أقعده الشلل الكامل، ويعبر عن نفسه بترجمة صوت الكومبيوتر لأفكاره وحركات عينيه).
في هذه الحالة تريد محكمة حماية المريض أن تظل، كمؤسسة قانونية، طرفاً في الأمر، ولا يترك لمجرد «الاتفاق» والتراضي بين أطراف، قد تلتقي مصالحها المختلفة في إنهاء حياة مريض قد يكون اليوم ميئوساً من شفائه، وبتكنولوجيا مستقبلية يعود عضواً منتجاً في المجتمع.
هنا تُظهر الإنسانية وجهها بإيجابية القانون بتطور واحد وعشرين قرناً على القسم الهيبوقراطي بتفضيل حياة الإنسان على أي اعتبار آخر.

______________

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى