مقالات مختارة

تقليد زائف لماركة ناجحة؟

عادل درويش

في موسم المؤتمرات السنوية للأحزاب السياسية، ترفع أم البرلمانات، وستمنستر، بمجلسي العموم واللوردات، لقرابة شهر.

وباستثناء الأحزاب القومية في أمم المملكة المتحدة الثلاث الأصغر (أسكوتلندا، وإمارة ويلز، وآيرلندا الشمالية)، فإن أهم مؤتمرين للحضور ولمتابعة الصحافة بكافة أنواعها ومنابرها، واهتمام الناخبين، هما لحزبي «العمال»، المعارضة الرسمية، و«المحافظين» الحاكم.
«العمال» أنهوا مؤتمرهم السنوي قبل ثلاثة أيام بخطاب زعيمه الجديد نسبياً، السير كيير ستارمر؛ و«المحافظون» يبدأ مؤتمرهم اليوم (الأحد).

يمثل المؤتمر فرصة لقيادات كل حزب للقاء ممثلي القواعد والفروع من أنحاء البلاد لتحدد الاستراتيجية والسياسيات للمرحلة التي تعبر بهم إلى الانتخابات التالية. فالانتخابات هي الأداة الوحيدة لتغيير الحكومة في أقدم الديمقراطيات؛ وهي التقييم الوظيفي ليجدد صاحب العمل، أي الناخب دافع الضرائب، عقد عمل من يعملون في خدمته، أي الحكومة، بناء على أدائهم أثناء فترة التعاقد (ما بين أربع إلى خمس سنوات دستورياً)، أو يضرب الحكومة «شلوتاً» ويسلمها ورقة الرفد، ويعين خدماً آخرين في حكومة جديدة.
هنا تأتي أهمية تحليل خطاب زعيم المعارضة العمالية ستارمر كاستراتيجية جديدة لحزب العمال.
النظام الدستوري للديمقراطية البريطانية يوضحه شكل برلمانها، حيث تجلس الحكومة (على يمين منصة الرئاسة) والمعارضة في مقابلها على اليسار. ومقابل كل منصب وزاري في الحكومة يوجد منصب وزاري في حكومة الظل العمالية. أي أن المعارضة، وفي هذه الحالة حزب العمال، هي الحكومة البديلة التي قد يعينها الشعب في حالة قراره رفد حكومة المحافظين من الخدمة في انتخابات 1924. ولذا فإن تحديد ستارمر لسياسة واستراتيجية الحزب تعني مشروع الحكومة البديلة المعروض على الشعب، وهنا تكمن أهمية تقدير صلاحيته كرئيس لوزارة قادمة.

في انتخابات 2019، مني حزب العمال بأكبر هزيمة منذ سبعة عقود، وصوتت دوائر الشمال في مناطق الطبقة العاملة التي كانت حكراً على حزب العمال لأجيال طويلة، للمحافظين لأول مرة. اعترف ستارمر في خطابه بفشل البرنامج الانتخابي للحزب في طمأنة الناخب. صيحة أحد نشطاء الحزب المناوئين له في قاعة المؤتمرات في مدينة برايتون الساحلية «ابحث عن بريكست»، تلخص الهوة العميقة التي فصلت قيادات الحزب عن الطبقات العاملة ومطالبها وحاجاتها. القيادات، ومعظمها لندنية من الطبقات المتوسطة والطبقات العليا ومن مهن كالمحاماة والطب والعلاقات العامة، والأكاديميين، تهتم بقضايا لا تدر بخلد ربة منزل فقد زوجها رزقه بسبب الاستغناء عنه لتوظيف عامل أو سائق بأجر أقل من الاتحاد الأوروبي، أو لأن معمل تكرير البترول، أو منجم الفحم الذي يعمل به أغلق حفاظاً على البيئة. هذا باختصار سبب الهوة التي فصلت قيادة الحزب عن ناخبيه التقليديين، وهو المعني في صيحة الناشط «ابحث عن بريكست». ستارمر، الذي تولى زعامة الحزب بعد استيلاء اليسار على زعامته ما بين 2016 و2020، كان من التيار الذي شن حملة لإلغاء نتيجة التصويت الديمقراطي للشعب بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وإبقاء بريطانيا فيه. التيار وصف المصوتين لـ«بريكست» بالعنصرية والفاشية، والجهل، وعدم الوعي، وكل الصفات التي تشير إلى احتقار الطبقة العاملة، وتكفيرها – باعتبار أن البيئة ومكافحة التسخين الحراري هي الديانة الجديدة التي يؤمن بها اليسار والمؤسسة الليبرالية المسيطرة على الرأي العام.

المشكلة التي تواجه الحزب، الذي يفترض تاريخياً أنه ممثل الطبقة العاملة والمدافع عن مصالحها وحقوقها، أن الفقراء لا يؤمنون بالطريقة البيئية الجديدة المفروضة من أعلى، لأنها موضة جذابة لأبناء الطبقات الميسورة من الوظائف العليا، لكنها خراب بيوت للطبقات العاملة.

المفارقة أن الهمسات التي دارت في أروقة المؤتمر بعيداً عن قاعات الاجتماعات، كانت اقتراحات جادة من شباب الحزب، بالتخلي عن دور نشطاء الحزب التقليدي بين الطبقات العاملة، والتركيز على الشباب من أبناء الطبقات الميسورة، الذين أشرنا إليهم في مقالات سابقة بـ«الووك» (woke) من اليسار الجديد بقضايا كالبيئة والحركة النسوية؛ أي أن حزب العمال لن يفكر في استمالة أصوات الطبقة العاملة مستقبلاً.
ستارمر، الذي كان المدعي العام في آخر حكومة عمالية، كان خطابه الأطول بين كل زعماء الأحزاب، وفي ميزان المقارنة، طول كلمة ستارمر ثلاثون ضعفاً خطبة إبراهام لينكولن الشهيرة في النصب التذكاري في بنسلفانيا في 1863، وخمس مرات أطول من أشهر خطب السير ونستون تشرشل في مجلس العموم في بداية الحرب العالمية الثانية يعد بمقاومة النازي.

في كلمته التي فاقت مباراة كرة القدم طولاً (بلا وقت ضائع)، شن ستارمر هجوماً شخصياً على منافسه رئيس الوزراء المحافظ بوريس جونسون، لا على سياسته، وهو عادة ما لا يلقى استحسان الناخبين في بريطانيا. ولم يذكر سياسة محددة كبديل عن سياسة الحكومة، باستثناء المزايدة عليها في وعود الإنفاق على مشاريع البيئة الخضراء. كما أنه في مقابلاته الصحافية رفض الاعتذار عما تلفظت به نائبته، أنجيلا رينير، التي وصفت وزراء الحكومة المحافظين بالإجرام وبأنهم مجموعة من «الحثالة»، خصوصاً أنها رفضت الاعتذار أو سحب كلامها، بل حاولت تبرير سيل الشتائم التي كالتها للوزراء المحافظين، بأن جونسون، عندما كان صحافياً، استخدم لغة لاذعة ساخرة فسرها البعض متعمداً بأنها عنصرية وشوفينية. وبالطبع «العذر أقبح من الذنب»، لأن خصوم جونسون من اليسار أخذوا كلماته خارج السياق على طريقة «ولا تقربوا الصلاة»… الأسوأ، بالنسبة لستارمر (الذي استعان بصحافي سابق كان يكتب خطابات توني بلير، أنجح زعيم لحزب قاده للفوز في الانتخابات ثلاث مرات) أنه حاول في خطابه أن يكون الماركة المعدلة من توني بلير، لكن الأخير قاد مجموعة «حزب العمال الجديد» ناجحاً في تهميش اليسار المتطرف الذي يخيف الناخب. لكن عجز ستارمر عن التعامل مع نائبة زعيم الحزب اليسارية الراديكالية السيدة رينير والتيار الاشتراكي المتطرف، يبين للناخب افتقاده للقوة والحسم اللذين تتطلبهما الزعامة السياسية.

بلير يتمتع بذكاء كبير، وبراغماتية تتسم بالميكيافيلية في التعامل مع الخصوم والحلفاء، وتمكن من الإبحار بسفينة العمال من صخور الاشتراكية إلى مياه الوسط المعتدلة، جاذباً الناخبين من المحافظين ومن الليبراليين، بينما احتفظ بالولاء للطبقات العاملة التي منحته ثقتها ثلاث مرات. وستارمر، الذي لم يعلن استراتيجية محددة، يبدو أنه لن يكون بلير ماركة – 2، بل تقليد كالبضائع الصينية التي تبدو مثل الماركة الأصلية، لكنها تفسد بمجرد تعرضها لاختبار استعمال حقيقي.

المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى