كتَـــــاب الموقع

أوكرانيا ضحية الجغرافيا والميديا والميليشيات

سالم العوكلي

” أوكرايينا” مفردة بولندية تعني أطراف الأرض، أطلقت على هذه الجغرافيا فترة هيمنة المملكة البولندية الشاسعة عليها في الزمن الذي كان ينزع فيها وجدانها إلى فضائها الشرقي القيصري، واللغتان الروسية والأوكرانية تبدوان كلهجتين مختلفتين للغة واحدة.

اللون البرتقالي هو مزيج الأحمر مع الأصفر، وحين قامت الثورة البرتقالية في أوكرانيا اعتبر البعض هذا اللون مزيجا من أحمر الاتحاد السوفياتي والأصفر شعار القومية الأوكرانية العتيق، بمعنى أنها تمثل شخصية أوكرانيا المستقلة وهويتها في سياق اتحادها السوفييتي القديم كفضاء ثقافي وروحي تنتمي له منذ قرون طويلة.

لكن هذه الثورة مثل كل الثورات تسللت إليها أصابع التدافع الدولي التي تتنافس على هذه الجغرافيا ذات الموقع المهم، وكان الصراع على حلفاء في الداخل على أشده بين هذه القوى، كما يحدث لكل الثورات.

حين تقدم القوميون الراديكاليون بكل درجات ألوانهم هذا الحراك صوبوه نحو أيدولوجيتهم القديمة التي تنتظر اللحظة مثلما فعل الإسلامويون مع الربيع العربي، ومنذ العام 2014 بدأ هذا التيار في سياسة الإقصاء والتمكين، وكان أول ما فكر فيه التحالف بين رجال الأعمال ــ الذين سيطروا على كل القطاعات المخصخصة ــ والأيديولوجيا القومية، وكانت الأولوية صناعة أذرع مسلحة لهذا التوجه، فشكل الملياردير اليهودي، كولومويسكي، كتائب التيار الخاصة أو ميليشياته التي من المفترض أن تحل بدل الجيش الذي يتمتع بعقيدة لا تستجيب لنزوعه النازي، وأصبحت هذه الميليشيات محط اهتمام القوى الغربية التي تحاول أن تستخدم أوكرانيا طعما لاصطياد الدب الروسي.

الميليشيات لا تشكل خطرًا فقط على أمن الدولة واستقرارها لكن على وجود الدولة أو الأمة من الأساس، أو على الأقل على سيادة الدولة التي ما عادت تحتكر القوة عبر مؤسساتها الوطنية، لأنها تفتح مجالا أو فروعا للقوى الخارجية الداعمة لها كي تتواجد بأجنداتها على الأرض، كما تخلق خطرا على الجيران القريبين والبعيدين، وتُعرِّض الدولة مرارا للاجتياح الخارجي أو للدعم العسكري والمالي الذي يقوض وحدة الدولة واستقرارها، وتزداد خطورة هذه الميليشيات حين تكون خادمة لعقائد أيديولوجية عرقية أو مذهبية، كما حدث في لبنان والعراق وليبيا واليمن.

تُحوِّل الميليشيات الممولة من الخارج الدولةَ إلى مكب لنفايات العالم المدمرة، أو ساحةٍ لتجربة الأسلحة الفتاكة، أو مقرٍ للصناعات والمختبرات الخطرة، كما حدث مع مخازن نترات الأمونيا في ميناء بيروت، وكما يحدث في أوكرانيا التي تحولت أرضها إلى قنبلة بيولوجية تشكل خطرا على المنطقة والعالم، تتحكم فيها الميليشيات النازية التي أسسها الملياردير كولومويسكي والتي أُدمجت فيما بعد في وزارة الداخلية وفي جهاز المخابرات كما حدث ويحدث في العراق وليبيا من إدماج للميليشيات في مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية، كتبت سفيتلانا ساموديلوفا، في صحيفة “موسكوفسكي كومسوموليتس” اليومية: “وفقًا للخبراء، يعمل 16 مختبرا بيولوجيًا أميركيًا على أراضي أوكرانيا، يتم تصنيف بعضها، حيث يمكن إنتاج فيروسات قاتلة، بالسرية، والخطير أن هذه المخابر الحيوية ليست في مناطق نائية، إنما بالقرب من المدن الكبيرة”.

ويقول عالم الفيروسات العسكري إيغور نيكولين في حوار ببرنامج أبعاد روسية “هناك 4 منها في كييف، و3 في لفوف، ويوجد أيضا مخابر في أوديسا، وخاركوف، ودنيبروبيتروفسك.. ولم تصادق أميركا قط على اتفاقية حظر استحداث الأسلحة البكتريولوجية والتكوسينية وإنتاجها وتكديسها، ولا على تدمير تلك الأسلحة، لقد قاموا ببساطة بإبعاد هذه المختبرات الخطرة عن أراضيهم. وهي الآن تعمل كأنما في منطقة رمادية.. في هذه المختبرات، يختبر علماء الفيروسات العسكريون أحدث ما ينتجونه على مجموعات جينية محددة: على البشر والحيوانات والنباتات. وبالمناسبة، الصين محاطة أيضا بالمختبرات البيولوجية الأميركية”.

ويضيف نيكولين، “على مدى السنوات العشر الماضية، تحولت أوكرانيا عمليًا إلى “قنبلة بيولوجية” بالنسبة للبلدان المجاورة، لدى استخباراتنا معلومات تفيد بأن عينات من فيروس الجدري نُقلت سراً إلى مختبر خاركوف في حاويات خاصة، وقد انتشر خبر التقرير الذي أرسل إلى البنتاغون، وفيه، تحدث علماء الأحياء الدقيقة الأميركيون عن نتائج مظفرة، فقد تمكنوا من تخليق بنية فريدة من جينوم فيروس الجدري، يمكن أن تتنكر في شكل فيروس كورونا، وقد قال رجل الأعمال الأميركي بيل غيتس مؤخرًا إن الوباء القادم سيكون الجدري، الذي يتسبب بوفيات تبلغ 90%.

ولأني لا أجيد سوى لغة واحدة مثل الكائن البدائي وحيد الخلية، أتابع القنوات الناطقة بالعربية وهي تخصص معظم ساعات بثها للحرب الأوكرانية، وطبعا لا أصدق معظم ما تخبرنا به هذه القنوات، ولسبب واحد، هو كوني اختبرتها منذ أن اجتاحت الأحداث الليبية العام 2011 وحتى الآن، وأحيانا أحسها وهي تحلل الأزمة الليبية كأنها تتحدث عن دولة أخرى لا أعرفها، الكثير من الأكاذيب المقصودة أو الأكاذيب الناتجة عن عدم تقص أو إهمال، أو نتيجة قوائمها المختارة من المتحدثين الرسميين فيها الذي إما منحازون أو جاهلون بما يحدث، ونتيجة أنهم يتحدثون عن شأن أعرفه إلى حد كبير ويغرقون في أكاذيب أو تحاليل ساذجة، ما عدت أثق فيها حين تتحدث عن أي مكان آخر في العالم أحاول أن أفهم ماذا يحدث فيه بالضبط، فألجأ إلى المقالات التي يكتبها صحفيون مستقلون، فرغم كل شيء مازالت الصحافة، والصحافة الورقية خصوصًا، تتمتع بمصداقية إلى حد كبير، ومازال بعض كتاب المقالات يتحرون الحقيقة بعيدًا عن ضجيج معظم القنوات الفضائية الكبرى التي اختبرت مدى تلاعبها بعقول الناس، وبالشكل الدقيق الذي وصفه عالم الاجتماع بيير بورديو في كتابه “التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول”. وما لاحظته أن هذه القنوات تبتهج بالحروب التي تزيد مداخيلها مثلما يبتهج حفار القبور أو بائع الأكفان بالموت، وهذا القصف الإعلامي المكثف الذي بدأ مع الحرب هو ما جعل النازحين يتزاحمون على حدود الدول المجاورة منذ الأيام الأولى للحرب وليس القصف الروسي والأوكراني فقط.

المفارقة أن القناة الوحيدة من القنوات الأجنبية الناطقة بالعربية التي غالبا ما أجد فيها ضالتي في محاولة الفهم هي قناة الآر تي الروسية الناطقة بالعربية، هي القناة الوحيدة التي يلاحقها الحجب والمنع والقفل، وهي غالبا ما تسعى للتوازن في برامجها عبر استضافة معبرين محنكين عن كل الأطراف ويتمتعون بعقول تحليلية ملفتة، لكن محاولة السيطرة على مصدر الخبر والمعلومة هو ما يحيل القنوات إلى جوقة تجتر نفس الخطاب.

وهذه القناة التي تحترم المشاهد إلى حد كبير تقف تقريبا وحدها في وجه ألاف القنوات ومصادر الأخبار والمعلومات التي تتبنى الرؤية الأميركية لطبيعة هذه الحرب مغمضة عيونها عن تفاصيل أخرى أفضت إلى هذه الحرب، ومتبنية معلومات لا يمكن أن يصدقها صاحب أقل قدر ممكن من العقل الناقد، وعلى سبيل المثال ما حدث في محطة المفاعل النووي في زاباروخيا الواقعة تحت السيطرة الروسية والذي تتناقل فيها 99% من القنوات الفضائية أن روسيا هي التي قصفتها وأشعلت فيها النار، وكل صاحب عقل لا يمكن أن يصدق هذا الخبر لأن بالنسبة للروس هذا عمل انتحاري، باعتبار المفاعل النووي يقع في وسط قواتها وفي قلب حلفائها.

الخبر الثاني يتحدث عن منع الجيش الروسي لخروج المدنيين من مدينة ماريوبول المحاصرة وقصفها الممرات الآمنة، وتتبناه جل وسائل الإعلام الموجهة، مع أن روسيا تؤكد أن من يمنع خروج المدنيين هي الميليشيات الأوكرانية المحتمية داخل المدن بهؤلاء المدنيين، وروسيا في صالحها كقوة محاصِرة أن تفتح ممرات أمنية يخرج عبرها المدنيون، وهي أهم نقاط المفاوضات التي خاضتها مع الجانب الأوكراني، وكل متمتع بقليل من العقل لن يصدق هذه المعلومة التي تروج بشكل كبير، والأمثلة كثيرة.

غير أن حكمة الألماني جوزيف غوبلز مهندس ماكينة الدعاية الألمانية لمصلحة النازية وأدولف هتلر التي تقول: “اكذب، اكذب، ثم اكذب حتى يصدقك الناس” مازالت تعمل بقوة، خصوصًا أن شبكات الإعلام المنتشرة في العالم والتي تسيطر عليها لوبيات أميركية وتعد بالآلاف؛ تكذب في الوقت نفسه.

وكما قلت في مرات سابقة، لا يعنيني من هذه الحرب سوى توخي الموضوعية، خصوصًا حين يكون الصراع بين نظم أوتوقراطية لا ديمقراطية ونظم ديمقراطية لا أخلاقية، ففي جميع الأحوال؛ الحرب مؤثمة وستظل أفظع القذارات التي يقوم بها الإنسان فوق الأرض، ولا تَحَكُّم لنا بها، وكل ما نستطيع التحكم فيه عقولنا وضمائرنا التي من المفترض ألا نجعلها أدوات مطيعة لهذا التلاعب الخبيث الذي يستخف بعقولنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى