اخترنا لككتَـــــاب الموقع

الفاعل “ضمير” غائب

سالم العوكلي

منذ المرحلة الثانوية، وفي مادة النحو تحديدا، كان دائما يربكني إعراب جملة (مات الرجل). مات: فعل ماض ، والرجل: فاعل. وكنت لا استوعب أن يكون الميت فاعلا إلا إذا كان منتحرا، لكن قواعد النحو التي غالبا ما تلجأ إلى منهج قياسي يتعلق بنظام الجملة تتغاضى عن قواعد المعنى لصالح قواعد الهندسة اللغوية، ما جعل النحويين حين يأتي اسم “الله” في موقع “المفعول به” من الإعراب، يضطرون لقول “لفظ الجلالة” مفعول به. لم اقتنع أن الرجل في الجملة السابقة فاعلا، وظل الفاعل قوة خفية أو سلطة لا تظهر في الجملة حتى ولو عن طريق ضمير غائب، منفصلا أو متصلا أو مستترا.

في الواقع ما ذكرني بهذا الارتباك القديم المقالة المهمة للشاعر والروائي عبد الحفيظ العابد “تهريب الضوء .. من الفاعل؟” المنشورة بموقع 218 في 15 نوفمبر 2017 ، التي يشير فيها، من مدخل آخر، إلى أن اللغة نتاج لاوعي جماعي في جوهره خاضع لعلاقات محددة في المجتمع بكل سلطاته التي تفرض سياقات المهادنة. أو كما مهد لأمثلة من مجتمعنا بقوله “للغة بعد قطيعي جماعي تنتجها الجماعة في حالتي الوعي واللاوعي؛ ذلك أنّ بنية اللاوعي كما يرى (جاك لاكان) هي بنية لغوية؛ أي أنّ المبعَد إلى اللاوعي يتمثّل في شكل كلمات، في ضوء هذا الفهم يمكن قراءة بعض المجازات التي أوجدتها الجماعة لتُشكّل نوعاً من مهادنة السلطة”.

ويضرب أمثلة دارجة من لهجتنا الليبية مثل “الضو هرب” و “المرتب نزل”. وقد نضيف قائمة طويلة من غياب الفاعل، مثل: المياه انقطعت. الطائرة تأخرت. حيث الجماد فاعل ولا وجود لمسؤول بشري، وهي قد تتشارك مع المثل الذي أوردتُه (مات الرجل) في حالة التباس الفاعل، أو مهادنة الفاعل الحقيقي، والذي عبر عنه بسؤال “من الفاعل؟”. غموض الفاعل، أو قداسته، أو الخوف من سلطته، يجعلنا نحيل المفعول به إلى فاعل وليس حتى إلى نائب فاعل. ولعل أمثلة عبد الحفيظ أقرب بكثير للتمهيد النظري الذي طرحه لرؤيته.

اللغة ليست مجرد أداة تواصل لكنها إحدى الأحافير التي من الممكن عبرها دراسة خصائص وسيكولوجية المجتمع المتحدث بها، وثقافته ونوع العلاقات داخله، وإذا ما بسطنا الأمر قد نقول إن مثل هذا الابتسار في التعبير أو التحوير الذي يتم في اللاوعي ناتج عن مناخ من انعدام حرية التعبير يصنعه وعي السلطة السياسية أو الاجتماعية ويتشربه اللاوعي الدارج. تقويض حرية التعبير لا يؤثر فقط في الرأي، ولكن في بناء اللغة نفسها، وفي آفاق تطويرها والنحو بها تجاه أن تكون لغة ديمقراطية، لأن اللغة مع طول الممارسة تتحكم في تكوين العقل الذي أنتجها.

الصحيح أن نقول: قطعت شركة الكهرباء الضوء، أو أنزلت الخزانة أو المالية المرتب، لكن المؤسسة جزء من النظام/ السلطة، وتغييب “الفاعل” يشبه التغطية على الجاني الحقيقي في القضايا الجنائية لتسجل القضية ضد مجهول، ويصبح المفعول به (المجني عليه) فاعلا (جانياً) ، أما المواطن الذي من المفترض أن يكون فاعلا (ليس بالمفهوم النحوي ولكن بالمفهوم الإنساني) فهو دائما مفعول به في ظل سلطات قامعة تروج لفكرة أنها فاعلة في حالة النجاح، ومفعول بها في حالة إخفاقها.

المدخل الذي افتتحه الشاعر عبد الحفيظ ثري جدا لتتبع العديد من القيم السلبية المترتبة عن تواطؤ اللغة مع السلطة نتيجة الحذر والحظر، وعن تلك المخاوف التي تنمو كالطحلب على حواف الكلمات والجمل، لكني سأبعد كثيرا عن هذا المدخل المتعلق بالحذر إلى جانبه المتعلق بالحظر الذي لاحق لغتنا ومساحات تعبيرنا طوال حقبة كاملة عشناها في قلب التوجس من اللغة، أو التلاعب بالمصطلحات والمفردات، للدرجة التي أصبحت في فترة ما لدى رقابة المطبوعات قائمة من المفردات الممنوع استخدامها في ما يُنشر رغم وجودها بضراوة في حياتنا اليومية، مفردات مثل: التجارة أو التاجر أو الملك والملكة التي كان يمنع استخدامها حتى في مملكة النحل ، أو العمال التي حلت محلها المنتجون ، أو سيارة الأجرة، التي حلت محلها الركوبة العامة، أو الشركة التي حلت محلها التشاركية، أو ليبيا التي حلت محلها الجماهيرية، أو الليبي التي حلت محلها العربي.

حدثني صديقي الشاعر عبد السلام العجيلي عندما كان يدرس بجامعة سبها أن أستاذا تونسيا اقترح فصلا في مادة الأدب العربي، وسماه “الأدب الليبي”، فما كان من أعضاء المثابة الثورية سوى استدعائه للتحقيق معه ليتمخض هذا التحقيق عن فصله من الجامعة في الوقت الذي كان ينتظر تكريما لكونه سد فراغا مهما في المنهج الذي يدرسه طلاب ليبيون.

بهذا الشكل تحولت هذه الحقبة إلى ملحمة من الصياغة اللغوية ل “بنية اللاوعي الجماعي” الخاضع ، وامتلأت وسائل إعلامنا وشوارعنا بالمقولات والاقتباسات الغريبة الركيكة، بينما كانت قرطاسية المؤسسات تتغير سنويا بسبب التغيير المستمر في المصطلحات والمفردات المستخدمة، وكان ما ينجز في حقل اللغة يُغني عن الإنجاز فوق الأرض.

لقد طال هذه الحظر حتى اللغة الإشارية بمفهومها السيميوطيقي، فمُنع في المسرح تسليط الضوء الأخضر على الشخصيات الشريرة فوق الخشبة، ومنعت ربطة العنق بحجة أنها رسم تجريدي للصليب.

من جانب آخر حدث ما يمكن أن يسمى باحتكار المفردات أو القاموس، ما أدى إلى التعامل مع بعض المفردات اللغوية بحذر لأنها اكتسبت معانٍ جديدة متعلقة بقداسة السلطة مثلما اكتسب اللون الأخضر تفسيره الأيديولوجي الوحيد الأحد.

أخبرني أحد المحررين بجريدة الميزان في التسعينيات أنهم نشروا مقالا لأحد رجال المرور يتحدث فيه عن عقوبة قيادة السيارة في حالات السكر، وكان عنوانه “القيادة في حالة سكْر” واستُدعي جميع المحررين للتحقيق، وأوقفت الجريدة فترة من الزمن، لأن “القيادة” أصبحت مفردة محتكرة لشخص واحد.

قبل عامين تقريبا، وفي فترة سيطرة داعش على مدينة درنة، زرت صديقي المسؤول عن التعليم في مكتبه وأخبرني السكرتير أن لديه ضيوفا فانتظرت، حتى خرج من عنده شخصان ملتحيان تتدلى من كتفيهما بنادق كلاشنكوف، يرتديان صديريات مموهة على جلابيات وبناطيل أفغانية. وحين دخلت وجدته ماسكا رأسه، وعارضا علي ما تركه الضيفان من قائمة لمفردات ومصطلحات ممنوع تداولها في مناهج التعليم، وأمام كل مفردة أو مصطلح كلمة (كفرية) : ومعظمها من منهج التربية الوطنية الجديد، مفردات مثل : الوطن ، المواطنة ، حقوق الإنسان، الانتخابات، المجتمع المدني، الدستور، الديمقراطية، وغيرها . وهو منهج التربية الوطنية الذي ألغته برمته، فيما بعد، الحكومة المؤقتة تحت ضغوط فاشية جديدة تتسرب إلى لغة المجتمع تحت شعارات دينية، لا تختلف عن داعش إلا بكون داعش ألغت مفردات معينة وتعليم المؤقتة  ألغى المنهج كله.

في الحالات جميعها المشترك هو الفاشية بكل تجلياتها ، وإمبرتو إيكو في مقالته (الفاشية الأصلية) يحدد عدة نقاط تمثل جوهر الفاشية، من ضمنها الولع باستخدام اللغة الركيكة والنأي بها عن التدقيق والتأمل النقدي “لقد تأسست كل النصوص، النازية أو الفاشية، على معجم فقير وتركيب بسيط، وذلك لتجنب أدوات التفكير المركب والنقدي”.

في مهرجان طرابلس الدولي للشعر الذي أقمناه العام 2012 تحدث الشاعر الإيطالي، أندريا راوس، عن تجربته، ومما قال: أنهم مازالوا كشعراء ينظفون اللغة الإيطالية مما علق بها من تلوث إبان حكم الفاشية، والمهمة مازالت مستمرة بالنسبة له بعد 70 سنة من نهاية الحقبة الفاشية في إيطاليا. لقد ولدت أجيال مازالت تتوارث جينة ذاك المسخ اللغوي، ما يجعلنا، في حالتنا، لا نستغرب فشل جولات الحوار الليبي، لأن ما يستخدم فيها لغة فاشية طقوسية متوارثة، بينما الحوار يحتاج إلى لغة ديمقراطية.

هذا التلوث الذي يطال لغة التواصل والتعبير هو ما يؤدي في النهاية إلى هذا البعد القطيعي الذي تمثله حالة من اللاوعي الجماعي تربت في قلب الفاشية.

في القطيع يكون فعل الزجر هو لغة التواصل، وفي الفاشية يصبح فعل الأمر أهم الأفعال، أما “الفاعل” الحقيقي فسيظل دائما غامضا وغير مرئي، وفي بعض الأحيان مقدسا تتعامل معه اللغة بحذر طقوسي، وفي أفضل الأحوال يكون الفاعل هو “الضمير الغائب”. ولا شيء أنكى من غياب الضمير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى