مقالات مختارة

مَن يجرؤ على قول «لا»!

محمد الرميحي

في كتابه «عالم ما بعد أميركا» يقدم لنا المؤلف الأميركي فريد زكريا حزمة من الأفكار الجديدة، وبعضها صادم. الكتاب يحاول أن يسبر غور مستقبل الرأسمالية الغربية، وفيه من الأفكار ما هو مقنع، وأخرى أقل إقناعاً، إلا أن فكرةً مركزية استوقفتني، وأعتقد أنها عامة وتنتمي إلى ثقافات كثيرة في العالم وليست محصورة في ثقافة المجتمع الاقتصادي الحديث. تلك الفكرة فسرها الكاتب بمحاولة الإجابة عن سؤال لماذا لم يرَ المتخصصون (في الاقتصاد والمجتمع) تباشير الانهيار الكبير الذي أصاب النظام الرأسمالي عام 2008، حيث ضاع تقريباً 40 تريليون دولار من قيمة الأسهم في الاقتصاد العالمي، وسبّب أضخم إفلاس في التاريخ؟!

يجيب عن ذلك السؤال بأن عدداً من المتخصصين كانوا يجاهرون بآرائهم بأن ما يحدث في الاقتصاد ظاهرة يُتوجس منها، ويشيرون إلى مخاوفهم بشكل علمي، وأن ما يحدث هو ليس أكثر من فقاعة قد تنتهي إلى كارثة، إلا أن تلك الأصوات في السنوات القليلة، قبل حلول الكارثة، كانت تشاهد أن الاقتصاد العالمي ينمو، وأن توقعاتهم تكذّبها دفاتر الحسابات الختامية في معظم الشركات الكبرى كل عام، والتي تنتهي بأرقام كبيرة من تحقيق الأرباح، حتى وصل بهم الأمر إلى أن شكّوا في ما يعرفونه من قوانين الاقتصاد، وانتهى كثير منهم إلى عدم الاحتجاج أو إصدار الإنذارات، خوفاً من اتهامهم بعدم المعرفة، وحتى (التخريف)! ثم وقعت الكارثة.

هذه الفكرة المركزية يمكن أن نراها تتكرر في الكثير من المجالات، ليست الاقتصادية فقط، ولكن أيضاً السياسية والاجتماعية. شخصياً مررتُ بخبرة من هذا النوع أستأذن القارئ في طرحها باختصار، وهي ذات ثلاثة مواقف؛ الأول في نهاية ثمانينات القرن الماضي، وكنت مسؤولاً عن تحرير مجلة «العربي» المعروفة، نشرنا خبراً صغيراً يشير إلى كُتيب أصدره وقتها المعارض التونسي المنصف المرزوقي. اغتاظت كل فرائص النظام التونسي السابق بسبب ذلك الخبر الصغير، ومُنع عدد المجلة بكامله من الدخول إلى تونس، وبُلغنا بعدها وبشكل رسمي، إنْ عدنا لذكر اسم المرزوقي فسوف تُمنع مجلة «العربي» إلى «الأبد» من تونس! لم يستطع ذلك النظام أن يرى اسماً وبضعة سطور لذلك (المعارض)، الذي أصبح بعد ذلك رئيس أول جمهورية بعد سقوط النظام! والخبر لم يتطرق إلى أي شيء آخر بتاتاً يمكن أن يثير، في الوضع الطبيعي، نظاماً سياسياً!

الحادثة الثانية، نظّمنا في المجلس الوطني للثقافة معرضاً للكاريكاتير، وعُرضت أشكال من الكاريكاتير لم يلفت نظري فيها شيء، وبعد بضعة أسابيع جاءني السفير الليبي وقتها في الكويت، وهو ينتفض ومنزعج، قال لي: إن «المعرض الذي نظمتموه أثار الغضب الشديد في طرابلس، العاصمة الليبية»، قلت: «على ماذا الغضب، وقد كنت أنت سعادة السفير موجوداً في المعرض، ولم تلفت نظرنا إلى شيء؟»، قال: «نعم، ولكن المسؤول الأمني في السفارة أرسل إلى طرابلس صورة (كاريكاتيرية تشبه الأخ القائد) وكتب تقريراً عنها، وقد وجه إليّ اللوم، ومهدَّد بالنقل، إن لم أحصل على اعتذار رسمي منك»! صعُب عليّ وضع الرجل المسكين، وكتبت رسالة شخصية له نعتذر عن الخطأ غير المقصود الذي وقع، إنقاذاً لجلده!

أما الثالثة فقد حدثت في دمشق؛ كنت ضيفاً على برنامج في التلفزيون الرسمي، والحديث عن الثقافة، فتحدثت عن أصل مفهوم مثقف، والتي تُعزى إلى مفكر فرنسي من أصل إيطالي هو إميل زولا، كتب في أوائل القرن الماضي مقالاً بعنوان «إني أتهم» يحتجّ على محاكمة جندي فرنسي ينتمي إلى الديانة اليهودية. الأمر معروف: في المساء، اقتُطعت الفقرة كاملة من البث!

جزء كبير من ثقافتنا غير متصالح سلمياً مع الرأي المضاد! فمثلاً كتابان صدرا قبل عام 2010 بسنوات قليلة، واحد عنوانه «مصر دي مش أمي، دي مرات أبويا»، والثاني «وجع المصريين» لم يتمعن أحد من مسؤولي ذلك الزمان في أيٍّ من مضمون الكتابين أو أيٍّ من أمثالهما، ببصيرة، ولو فعل لسمع بوضوح جرس الإنذار يدق بقوة، بأن هناك أمراً ما خطيراً ومقلقاً يحدث! الإنسان بطبعه قد يفضل أن يصدق ما يعتقد أنه صالح له، ويتجاهل أو يُكذب ما هو مضاد لمصلحته. في ثقافتنا العربية تتفاقم المشكلة، فتسأل طفلك مثلاً: لماذا أنت ضعيف في الرياضيات؟ في الغالب يجيبك بأن «الأستاذ لا يعرف كيف يشرح المادة»، وهكذا تسير الأمور في لوم الآخر على كل الأخطاء، التي نرتكبها نحن! في كثير من الأوقات الحرجة نجد أن المسؤول لا يريد أن يرى (الحقيقة)، هو لديه حقيقته المختلفة. في مذكرات آخر سفير بريطاني في طهران أنتوني بارسونز «الكبرياء والسقوط»، يقول في كتابه بالنص: «لماذا فشلت أنا رغم خبرتي في المنطقة في رؤية ما كان يبدو أمام ناظريَّ وشيك الوقوع؟!».

ويجيب: «إن السبب في ما وقع (أن الشاه كان يريد أن يحوّل إيران إلى شيء هي ليست منه)»! يكاد التاريخ يعيد نفسه، ولكن هذه المرة بشيء كثير من السخرية، فالنظام الإيراني الحالي يريد أن يحوّل إيران إلى إمبراطورية! فات وقتها بزمن طويل، وهي ليست شيئاً منها! والأكثر سخرية، أنه يرغب في فعل ذلك بغطاء ديني! لديّ قناعة بأن الأهم في استقرار الشعوب هو أن تكون هناك حرية ولو نسبية، بأن يكون المتحدث في الشأن العام لديه شيء من حرية القول، التي تتيح لمتخذ القرار أن يتعرف على شيء قد يجهله. ينتابني مثلاً شك كثير في تصديق متحدث من طهران يعلق على الشأن العام من هناك في أي محطة تلفزيونية، العجب أن معدّ ذلك البرنامج، لا يعرف أن الرجل في فمه ماء كثير، فلا يستطيع أن يحيد عن الخط العام للنظام، كان ذلك المتحدث اليوم من طهران أو من دمشق، أو كان يتحدث في السابق من بغداد أو طرابلس ليبيا أو تونس في عهودها السابقة، هذه الحرية النسبية المفقودة، هي التي فجّرت في نهاية المطاف كل تلك الشحنة من الغضب، والذي تحول في مكان منه إلى فوضى اليوم تضرب مدناً كثيرة في فضائنا العربي.

آخر الكلام: من الخطأ في الإدارة (أياً كان نوعها) أن يشعر القائد بأنه يحتاج إلى أناس حوله يقولون نعم دائماً، من الأكفأ أن يتوفر مناخ يستطيع فيه بعض المحيطين أن يقولوا «لا» مبرَّرة، دون إطلاق طاقة سلبية تفسد العلاقة. صفة القبول بـ«لا» هي من صفات القائد الناجح.

المصدر
الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى