مقالات مختارة

متحف الجماجم الفرنسي ورأس ليبيا المقطوع

علي شندب

في لحظة تاريخية نادرة، ومكثفة بالعذابات والآلام والتضحيات والانفعالات النفسية والوجدانية العميقة، تمكّن الجزائريون من فتح أبواب “متحف الجماجم” في باريس. إنه المتحف الذي سُمّي تلطيفا لجرائم فرنسا وتاريخها الاستعماري البشع “متحف الإنسان”.

“متحف الجماجم” يحتوي على نحو 18 ألف جمجمة، تم تحديد هويات 500 جمجمة منها كما ذكر الإعلام الفرنسي عام 2016، بينهم أكثر من 30 جمجمة لقيادات المقاومة الشعبية الجزائرية قطع الفرنسيون رؤوسهم بفعلة ترهيبية استعمارية مشينة. ترى ألهذه الدرجة اقتبس داعش من فرنسا الاستعمارية، دون أن يهتم باقتباس المتحف الخاص به لأن المتاحف والتماثيل والصور حرام شرعا.

فبعد 170 سنة، تمكنت الجزائر من استعادة 24 جمجمة لقيادات من المقاومة الجزائرية، جلّ جريمتهم أنهم رفضوا الاحتلال الفرنسي في 5 يوليو 1830 وقاوموه. أما الثامن من مايو لعام 1945 فقد قرّره البرلمان الجزائري يوما وطنيا لتخليد الذاكرة، كما لتخليد ذكرى 45 ألف شهيد قتلهم الاستعمار الفرنسي في يوم واحد، لأنهم خرجوا يطالبون باستقلالهم وحريتهم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

صحيح أن استعادة الجماجم والجثامين والرفاة من متاحف فرنسا ومقابرها، هدف جزائري دائم مهما استطال الزمن. لكنها الاستعادة التي لطالما قوبلت بتسويف ومماطلة من الجانب الفرنسي، وإلحاح متواصل من الجانب الجزائري. إلحاح دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته الجزائر في ديسمبر 2017 للإعراب عن استعداده وبلاده لتسليم جماجم شهداء المقاومة الشعبية. لكنّه الاستعداد الذي دخل ثلاجة المماطلة والتسويف والتعنّت من جديد.

أمّا الذي سرّع خطوات حكومة ماكرون في الرضوخ لمطلب الجزائر وضاعف من الضغوط عليها، فهو حراك 22 فبراير 2019. إنه الحراك الذي هدّد بقطع العلاقات مع باريس والذي حضّ الجزائر على إبداء رغبتها في التخلّي عن هيمنة اللغة الفرنسية على مناهج التعليم. ما يعني تسديد الجزائر ضربة قوية لباريس، وانحسارا للفرنكوفونية بوصفها عصب القوة الناعمة الفرنسية.

ورغم الأهمية التاريخية والأخلاقية التي تشكّلها عملية استرجاع جماجم الشهداء، إلا أنّها تظل نقطة في بحر خلاف الذاكرة المتوترة والمضطربة بين الجزائر وفرنسا. إنها الذاكرة التي يحوي بعضها “الأرشيف الفرنسي”. إنه الأرشيف الذي يلطخ عاصمة الأنوار بالعار، والذي تتمنّع فرنسا حتى اليوم عن تسليمه الى الجزائر.

وبعيدا عن الحالة الوجدانية العامة لاستعادة جماجم الشهداء، التي تفتح الأفق على صفحة جديدة من رد الاعتبار المعنوي والمادي للجزائر، لا بدّ من قراءة هذا الحدث في إطار التطورات الاستراتيجية المتصاعدة والمتسارعة التي استوجبت مثل هذا الرضوخ الفرنسي النادر والثمين.

إنه الرضوخ الذي استثمره الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون عندما طالب فرنسا باعتذار عن ماضيها الاستعماري في بلاده، معتبراً “أنّ باريس قدّمت نصف اعتذار”، آملاً في أن “تُواصِل على نفس المنهج وتُقدّم كامل اعتذارها”. وإذ أكد تبّون “أنّ ماكرون رجل نزيه قادر على مواصلة نهج التهدئة بين البلدين وجعله أكثر صفاء من أجل علاقات اقتصاديّة، ثقافيّة وحسن جوار”، ذكّر تبّون “بالدور الذي يمكن أن يلعبه 6 ملايين جزائري يعيشون في فرنسا”.

إذن الاعتذار الكامل والتعويض المعنوي والمادي هو مطلب الجزائر الرسمي والشعبي، وهو المطلب الذي سدّدت فرنسا الدفعة الأولى منه بإعادة 24 جمجمة شهيد. وهو المطلب الذي ستستمر الجزائر في السعي لتحقيقه. رغم أنه المطلب الذي عندما يتحقّق، لا يشكل السابقة في العلاقات الدولية.

فملكية هذه السابقة السياسية والفكرية والأدبية، محجوزة بامتياز للزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، الذي تمكّن من فرض الاعتذار على إيطاليا ماديا ومعنويا بعد عشرات السنين من المطالبات القوية واللحوحة، حتى رضخت إيطاليا بتاريخ 30/08/2008 وقدمت اعتذارها المادي استثمارات بقيمة 5 مليارات دولار على مدة 25 سنة في مشروعات تنموية ضخمة، بلسان سليفيو برلسكوني رئيس وزراء إيطاليا وتوقيعه الرسمي.

أما الاعتذار المعنوي فقد صدّقه وصادق عليه “انحناءة” برلسكوني لتقبيل يد ابن شيخ الشهداء عمر المختار في ذات المبنى الذي كان مقرا للمحكمة والحاكم العسكري الإيطالي في بنغازي. ثم أعاد برلسكوني الكرة، ليقبل يد القذافي شخصيا في مدينة سرت (التي باتت تسمى “ستالينغراد” العصر أيضا)، في خطوة بدت تأكيدا على استتابة إيطاليا وعدم معاودتها الاستعمار والعدوان مرة أخرى.

لكن التعويض وتقبيل اليد، لم يمنعا إيطاليا البرلسكونية المستتيبة إياها، من الانخراط إلى جانب تركيا الأردوغانية وحلف الناتو، وقد أصبحت ليبيا ومنذ العدوان الناتوي المرتكز على فتاوى قرضاوي الإخوان بالقتل وسفك الدماء عام 2011، بمثابة جثة مقطوعة الرأس. ما عرضناه عن اعتذار إيطاليا ليس مجرد إنعاش لذاكرة قريبة، إنه الاعتذار الذي تعيه الجزائر جيدا، والذي يقول إن جنوح فرنسا نحو الاعتذار والتعويض، فرضته عدة أمور من بينها التحولات الاستراتيجية الخطيرة في شمال إفريقيا وأهمها حالة العداء المستجد بين فرنسا وتركيا على النفوذ والنفط والطاقة في ليبيا وشمال إفريقيا.

لكنّه الاعتذار الذي أخفق البرلمان التونسي في إقرار لائحته التي تطالب فرنسا بالاعتذار والتعويض، وأيضا بتسليم تونس الأرشيف الفرنسي الخاص بها، والذي يؤرخ ويوثق جرائم الاستعمار الفرنسي الذي استمر 75 سنة في تونس.

ويرجح أن عدم إقرار البرلمان التونسي لهذا المطلب مرتبط باللحظة السياسية التي يحاول فيها غنوشي النهضة والبرلمان دفع تونس إلى أحضان أردوغان تركيا التي سبق لها أن سلّمت تونس للاحتلال الفرنسي.

استعادة الجماجم، شكّلت وعبر قناة “فرنسا 24″، منصّة دبلوماسية للرئيس الجزائري عبدالمجيد تبّون، أطلق عبرها سلسلة من المواقف التحوليّة خصوصا تجاه المأساة الليبية. ففي غمز واضح من تدخل تركيا في ليبيا حذّر تبّون من “أن تتحول ليبيا إلى ملاذ للإرهابيين وأن ترسل أطراف متورطة في الصراع الليبي إرهابييها إلى هناك”. وفي انخراط أقوى لبلورة حلّ حول ليبيا، دعا تبّون، الذي قال بأنه تناقش مع ماكرون في هذا الأمر، دعا الأطراف الليبية إلى “تشكيل مجلس رئاسي يكون ممثلا عن مختلف المناطق الليبية ويعمل على وضع دستور جديد وانتخابات رئاسية”.

لكن الموقف التحوّلي غير المتحفّظ الذي أطلقه تبّون للمرة الأولى حيال ليبيا، كان اعتباره “أن حكومة الوفاق الليبية لم تعد تمثّل الشعب الليبي، وأن الأحداث تجاوزتها”. وفي موقف إسنادي لطعنه بشرعية حكومة الوفاق غير الوفاقية الموازي لسحب الاعتراف منها، أكد الرئيس الجزائري على أن بلاده قريبة في مواقفها من فرنسا وإيطاليا وفاعلين آخرين بخصوص الأزمة الليبية، مشددا على أن “القبائل الليبية تحلّت بالحكمة عكس ما يعتقد الكثيرون. لقد طفح الكيل، والقبائل ستبدأ بالدفاع عن نفسها وتسليح نفسها”.

إنها القبائل الواحدة المتساكنة على ضفتي الحدود الجزائرية الليبية. وهي القبائل التي قاتلت جنبا إلى جنب، ضد الاحتلال الفرنسي في معركة “ايسيّن” جنوبي مدينة “غات” الليبية المقابلة لمدينة “جانت” الجزائرية، وهي المعركة التي امتزجت فيها الدماء الليبية الجزائرية، كما وضعت حجر الأساس لانطلاق المقاومة الجزائرية في كل شرقي الجزائر. إنه التاريخ المشرّف للبلدين، وإنه التوقيت المناسب لكي يقوم الجزائريون بواجبهم التاريخي تجاه إخوتهم في ليبيا ومساعدتهم في مواجهة الاحتلال التركي.

دبلوماسية استعادة الجماجم، أحدثت نوعا من التطابق المستجد بين فرنسا والدول العربية المجاورة لليبيا. ففي زيارته الأخيرة إلى باريس أطلق الرئيس التونسي قيس سعيد مواقف قال إنها نفس مواقف الجزائر التي ينسق معها باستمرار. إنها المواقف الرافضة لتقسيم ليبيا وتحويلها إلى مقاطعات أو كانتونات، وهي المواقف الطاعنة “بشرعية حكومة الوفاق القائمة على شرعية مؤقتة ولا يمكن أن تستمر”، وهي أيضا كما قال الرئيس التونسي المواقف المتطابقة حيال الدور المحوري للقبائل الليبية في استنقاذ ليبيا. إنها المشروعية المنبثقة عن شرعية شعبية تمتلك أوراقها القبائل الليبية.

إنها المواقف التي شكّل موقف الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي حجر الزاوية فيها، سواء بالنسبة إلى اعتبار منطقتي سرت والجفرة خطا أحمر بالنسبة لمصر والأمن القومي العربي، أو بالنسبة لدور القبائل الليبية المركزي في حال تدخل مصر عسكريا لمواجهة الغزو التركي. إنها القبائل التي سيكون أعيانها ومشايخها ومقاتلوها (الذين تحدث السيسي عن استعداد مصر لتدريبهم وتسليحهم)، سيكونون بحسب السيسي على أرتال الجيش المصري وفي مقدمة القوات المسلحة المصرية.

مما تقدّم عرضه، يتضح أن نوعا من التطابق بل والتفاهمات الاستراتيجية الهامة، والتي استجدت في مواقف كل من مصر، تونس والجزائر، وهي الدول التي لطالما اعتور مواقفها تباينات وتمايزات لافتة.

لكنّ مخاطر التدخل التركي وتوغله في ليبيا، عبر جسر الإخوان الممدود من الغنوشيين والصلابيين الذين هم للمناسبة حوافر الأردوغان في شمال إفريقيا وأدواته لتقويض الدول العربية بهدف استعادة التاريخ غير المجيد للاحتلال التركي، كما وسيطرة أردوغان الأتراك على منابع وموانئ النفط في خليج سرت وغيره.

بالتوازي مع ما تقدّم أيضا، فقد كان لافتا للانتباه كلام وزير الدفاع التركي خلوصي أكار خلال زيارته “ولاية” طرابلس، حيث صرّح من على فرقاطة حربية مقابلة للشاطئ الليبي قائلا “لنا مع المنطقة تاريخ مشترك يمتد لـ 500 عام. أجدادنا انسحبوا من المنطقة. لكننا سنقوم بكل ما يجب القيام به. وسنبقى هنا إلى الأبد”. كلام أكار الاستفزازي لليبيين والعرب تزامن مع انتهاء القوات التركية من نصب وتجهيز منظومة دفاع جوي رادارية من طراز “هوك”، إضافة لمنظومة “كورال” للتشويش في قاعدة الوطية غربي ليبيا.

لكن المنظومة الرادارية التركية، تعرّضت للقصف العنيف والمدمّر بنحو تسع غارات جوية بحسب مدير التوجيه في الجيش الليبي العميد خالد المحجوب. فيما تحدثت تقارير إعلامية عن “طيران مجهول” نفّذ الضربة الجوية. فتارة قالت إن الطائرات المغيرة على الوطية هي رافال فرنسية، وطورا قالت إنها ميغ 29 روسية. إنها وبكل الأحوال، الطائرات المنبثقة من التفاهمات الجديدة حول ليبيا وشمال إفريقيا.

إنها التفاهمات التي جحّظت استعادة جماجم شهداء المقاومة الجزائرية، نقطة التحول الاستراتيجية في إقرارها وتثبيتها لسببين:

أولا، لمنع انتقال الفوضى من ليبيا إلى جوارها العربي والإفريقي والمتوسطي.

ثانيا، لعدم ترك ليبيا كجثّة مقطّعة الأوصال ومقطوعة الرأس نهبا للأطماع التركية والمغامرات الأردوغانية.

** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.

المصدر
العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى