مقالات مختارة

مئة اكتوبر وخمسون حزيران

سمير عطا الله

2017 عام التذكارات الكبرى: مئة عام على الثورة البولشفية، التي يرى فيها عدد كبير من كبار المؤرخين، اهم حدث في التاريخ، وخمسون عاماً على نكسة 5 حزيران، الحدث الأكثر كآبة في تاريخ العرب. الثورة وقعت في ذروة انهيارات وتداعي حكم قياصرة آل رومانوف، الذي دام 300 عام. والنكسة حدثت في ذروة الغليان القومي، بعد نكبة 1948 التي اتهمت فيها الأنظمة العربية بالخيانة والأسلحة الفاسدة.
قَلَبَ فلاديمير لينين ورفاقه تاريخ الروسيا، وسوف يغيرون تاريخ العالم. كانت بطرسبرج العظيمة قد انهارت تحت توالي الانحدارات. القيصر نيكولاي الثاني سئم وضعف امام ثورات “القبان” المتلاحقة، والامبراطورية واقعة تحت سلطان كاهن قروي يسيطر على حياة القصر وسياسة القيصر، له رائحة العفونة. راسبوتين. وفي المقابل، لينين يجول في عواصم اوروبا مدبّراً اقتحام القصر على طريقة الثورة الفرنسية.
كان ادباء روسيا الكبار قد اعدّوا مناخ الانتفاضة والانتصار مثل زملائهم في فرنسا: تولستوي. بوشكين. دويستويفسكي، وسواهم. هل يمكن القول إن الكسندر بوشكين كان أهم شاعر في العالم؟ إذا شئت. لكن ديغول سوف يحذّر من لعبة المفاضلة عندما يتعلق الأمر بالشعراء، دعوا هؤلاء الامراء يرتاحون في خلودهم الجميل.
شعراء العرب كانو ينتظرون يوم الانتصار ومعهم جماهيرهم. الفصحاء والعاميون. من شوقي وحافظ إلى بيرم التونسي ونزار قباني. لكن يوم أفاق نزار على نعي النصر، شعر وكأنه يدفن أمه في بحرة البيت في الشام: “انعي لكم يا اصدقائي، اللغة القديمة والكتب القديمة. انعي لكم كلامنا المثقوب كالاحذية القديمة”.
كان لينين من عائلة ميسورة، اقطاعية الارزاق، مثل معظم رجال الثورة الفرنسية. لكنه كان يضمر للقيصر ما كان يضمره التلميذ روبسبيير للويس السادس عشر، وهو يلقي كلمة الترحيب به باسم طلاب “الليسيه لوي لو غران”. ولم يكن لينين وسيماً، بل ربعي القامة، تصلّع مبكراً، غير أنه كان خطيباً ساحراً مثل ميرابو، صاحب الجملة الشهيرة “نحن هنا بارادة الشعب ولن نخرج إلا على أسنّة الحراب”.
الخطابة كانت يومها سحر الازمنة وفرقة التعبئة الأولى. مثلها مثل طبول الفرقة الاسكوتلندية. وجمال عبد الناصر لم يكن يخطب فقط في الحشد الذي امامه، بل كان اليابانيون قد اخترعوا شيئاً يشبههم، يدعى الترانزيستور، صغير الحجم، هائل الأثر. وحول هذا الترانزيستور كان يتجمع الفلاحون في الترع والوادي، وفي لهب بلاد النوبة. وما أن ينتهي عبد الناصر من خطبته حتى يرددون حول النيل النشيد الذي وضعه صلاح جاهين وغنته ام كلثوم العام 1956 لمصر السويس: “والله زمان يا سلاحي”.
اشتراكية لينين كانت قائمة على العنف: “لا معنى لثورة من دون منصة اعدام بالرصاص”. وفي امرٍ اصدره العام 1918 إلى الرفاق: “اولا، اشنقوهم في الساحات وامام الجموع. افضحوا اسماءهم، صادروا قمحهم وحبوبهم: مخلّصكم، لينين”. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي اظهرت الوثائق التي نُسِفت ان ما بين 220 الفاً إلى 300 الف شخص قتلوا بأوامر مباشرة من فلاديمير اليانوفيتش.
لا خط واضحاً لروسيا البوتينية حيال ثورة اكتوبر. وعلى مسافة قليلة من جثمان لينين المحنط، يتسوق الروس الاغنياء اغلى البضائع الرأسمالية. واعلنت الكنيسة الارثوذكسية تطويب نيقولا الثاني وعائلته. واعيد الاسم الامبراطوري، بطرسبرج، الذي تحول لينينغراد. وبعض دور السينما في موسكو وبعض محطات المترو، لا تزال تحمل اسم “اكتوبر”،وثمة ساحة باسم “الثورة”.
عاشت ثورة اكتوبر 70 عاماً وانتهت على ايدي ابنائها. يوري اندروبوف وميخائيل غورباتشيوف وبوريس يلتسين. وانتهت ثورة 23 يوليو اولاً على يد احد مؤسسيها، انور السادات، ثم بأيدي ثوار 25 يناير. لكن لولا نكسة 5 حزيران لما استطاع احد التجرؤ على 23 يوليو وأخلت مصر المهزومة والمتراجعة، وهج الحركة القومية إلى الثورة الفلسطينية، فيما حاولت دول عربية اخرى تقاسم مكانتها بعد ذهاب مصر إلى كمب ديفيد. وفي كمب ديفيد كان اول شروط اسرائيل أن يتغير النشيد الوطني، من “والله زمان يا سلاحي” إلى “بلادي بلادي بلادي” المجرد من السلاح.
يروي الأمير فيلكس يوسوبوف (1)، الرجل الذي دبر وقتل راسبوتين، يوميات الأشهر الاخيرة من تاريخ القياصرة: طبقة بكاملها تذهب إلى الاهانة والذل والموت، ومن يبقى حياً يذهب إلى اوروبا للتشرد. وتبدأ طبقة جديدة في الظهور، وتروح تتملك ما تغنم. وتعم الفوضى. اما لينين نفسه، فيصر على غرفة واحدة في الكرملين. ويرفض الهدايا. وما يرسل إليه من طعام وثمار وفواكه يوزعه على الجائعين والمستشفيات (2).
كلفت الثورة الفرنسية، التي استوحاها السوفيات، نحو 40 الف قتيل، ليس محسوماًَ إلى اليوم عدد ضحايا الثورة البولشفية حتى آخر ايام ستالين. لكن مثل الثورة الفرنسية، قتل الثوار بعضهم البعض. وعاشوا في رعب من بعضهم البعض. وفي النهاية، اصبح الحكم في قبضة رجل واحد، ستالين، أو يلتسين، أو بوتين.
هكذا فعلت جميع “الثورات” المشابهة. عندما وصل ماو تسي تونغ إلى بكين، قاطعاً “المسيرة الطويلة” كان قد سقط من حوله جميع الاعداء والاصدقاء والرفاق. وكان رأسماله الأكبر، كما هي العادة، عدوه تشان كاي تشك وزوجته. الأول غرق في الفساد، والثانية في العشق واصدقائها الاميركيين.
في ثورة 23 يوليو، تساقط الرفاق من “الضباط الاحرار” من دون عنف. الاّ أن اول رئيس فيها، اللواء محمد نجيب، ادخل السجن، ليكون اول رئيس مصري يتعرض لما تعرض له الرؤساء في سوريا والعراق والجزائر. ولم يبق في واجهة الضباط الاحرار مع حلول 1967 سوى ناصر ورفيقه الأقرب عبد الحكيم عامر. كان عامر شعبياً بين الجيش، وناصر محبوباً من الجيش والشعب معاً. وعندما اغلق عبد الناصر مضائق تيران في وجه الملاحة الاسرائيلية وطلب سحب القوات الدولية، اضطرب السوفيات، وخافوا قيام نزاع دولي يُقحمون فيه، فطلبوا إليه بالحاح، عدم البدء بالحرب. وسافر وزيره شمس بدران إلى موسكو حيث امضى اسبوعين يحاول اقناع الكرملين بضرورة الحرب. استغل الاسرائيليون تردد مصر، واقدموا على حرق اسطول مصر الجوي وهو رابض على الأرض. وبدأت في النفس العربية معاناة هزيمة أخرى، لأن المهزوم هذه المرة ليس “الجيوش والعروش” كما سماها محمد حسنين هيكل، بل الثوريون. حاول عبد الناصر الاستقالة، فلم يتركه المصريون. وحاول عامر الانتحار، فلم يردعه احد.
غيرت نكسة 5 حزيران في الروح العربية وجوهر فكرها، كما غيرت ثورة اكتوبر في روح اوروبا، ولاحقاً، العالم. وصلت افكار كارل ماركس إلى افريقيا، أو ما وصفه جوزف كونراد بـ”قلب الظلام”. وحطت الرحال فترة غير طويلة في جنوب اليمن، التي كان يرى فيها البريطانيون موقع تموين وحراسة على الطريق إلى الهند. وبلغت الساحل المقابل للولايات المتحدة، ثم تسللت إلى كل حدائقها الخلفية في اميركا اللاتينية. وامتد حجم الاتحاد السوفياتي نفسه إلى ابعد بكثير مما ضم القياصرة والامبراطورة كاترين الكبرى، اعظم الحاكمات في التاريخ.
العام 1974 تكهّن المفكر الروسي اندريه امالريك في “الموند” بأن الاتحاد السوفياتي سوف ينهار العام 1984، لأن تمدده لن يعود يسمح له بمراقبة جميع دول الاتحاد. عاش الاتحاد إلى ما بعد ذلك بقليل. خرجت شعوب اوروبا الشرقية عن بكرتها تعبر الحدود، وتفتت جدار برلين، وتهلل للحرية في الساحة الحمراء. وطوى الروس علم المطرقة والمنجل. ونزعوا ملصقات لينين وعينيه المائلتين، من الأثر التتري في عائلته.
مرة أخرى غيَّر الروس تاريخ العالم. لم يعد في همومهم نشر تعاليم ماركس في بخارى وعشق اباد. وراحوا يقلمون الاطراف ويخففون الاتحاد الجديد من البوادي البعيدة . وتركوا منغوليا في يد رئيس يهوى اغاني الفيس برسلي، والمضاربة بالاسهم. مئة عام على العام الذي قرر فيه لينين العودة من جنيف لكي يغير وجه الأرض. لكن وجه الأرض مثل وجه المرأة في قصيدة المتنبي، يتحول ولا يتغير:
زودينا من حسن وجهك ما دام / فحسن الوجوه حال تحول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “النهار” اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى