كتَـــــاب الموقع

علي الوكواك … الفنان الذي أهملته بلاده

انتصار بوراوي

 في عام 2008 جذبتني يافطة بعنوان “دار أكا كوس” في شارع متفرع من ميدان منارة بنغازي، فدخلت المبنى لأجد بضعة رواد يتأملون منحوتات فنية على جدران المبنى ونواحيه، فيما كان ثمة شخص بشعر طويل ملفت منكبا على العمل بمنحوتة بين يديه ومستغرقا فيها دون اهتمام بمن يدخل للمكان الذي كانت تصدح منه صوت موسيقى فرقة البي جيز من جهاز تسجيل بجانب الفنان.

كان المبنى قديما، تعبق منه روائح التاريخ والمواد التي يستعملها الفنان لمنحوتاته، فيما كانت هيئة الفنان النحات وصوت الموسيقى الغربية لإغاني البي جيز تضفي فنية هائلة على المكان، بدا لي أن ثمة سحر في المكان بفنية المعروضات التي ينحتها الفنان بيديه بشغف ومحبة، وبأسلوب مبتكر لم يسبقه إليه أحد، واقترب مني شخص قام بالتعريف بنفسه بأنه ضابط أمن مسئول على أمن وحماية المكان، ثم أشار للفنان المستغرق في عمله وأخبرني بأنه الفنان علي الوكواك ، فسألته إذا كان هناك أي مانع من سؤاله بضعة أسئلة عن أعماله، فأجابني بالقول بأنه  ليس هناك أي مانع، فاتجهت للفنان وسألته عن نوعية المواد التي يستخدمها في عمله فأخبرني بأن معضمها من الخشب لأنه يجد مرونة معه في تجسيد أعماله الفنية المتعددة من أقنعة ووجوه، ومجسمات بشرية، ثم قام بإطلاعي على الغرفة التي يحتفظ بها بمجموعة من أعماله السابقة التي كانت معلقة على جدران الغرفة بالمئات، فوقفت مبهوتة ومندهشة من الروعة والسحر الذي تجلى أمامي وشعرت وكأن تلك الوجوه حية تحدق هي أيضاً في وجهي وتنطق بالحياة، كان كل وجه معبر عن حالة نفسية أغلبها متشظية كأنها تعبر عن روح الفنان فثمة دلالات للوجوه تنتقل مابين الحزن والألم والصرخة المكتومة، والذهول والإحساس بالخيبة والانتكاس، لم يصادفني وجه سعيد أو يعلوه الفرح أو الحبور فهل كان رسم الفنان علي الوكواك لتلك الوجوه الحزينة والمتألمة والموجوعة هو إسقاط منه على حالته النفسية التى كان يعيشها في تلك الفترة مهملا، منزويا، في بيت عربي قديم متهالك بأحد شوارع خريبيش، دون أن يعرف بأعماله الفنية المذهلة إلا قلة من الزوار، قد تقودهم خطاهم صدفة للمكان، أو بضعة سياح أجانب تقوم الدولة بجلبهم للمكان من حين لآخر ..ربما هذه إحدى التفسيرات لتلك القطع من الوجوه الفنية التي يصدح من تعابير وجهها الألم والحزن والغضب.

كان إهمال الأعمال الفنية التي تخطت عشرة آلاف منحوتة كما صرح في إحدى لقاءاته الصحافية القليلة والنادرة، هو إهمال متعمد من أمانة الثقافة سابقا في عهد القذافي، وتواصل هذا الإهمال بعد ثورة فبراير، التي استبشر بها الفنان علي الوكواك واستقبلها ببهجة وحمل أعماله الفنية إلى قصر المنار، واستفاد من قطع السلاح التي تناثرت بعد الثورة، وحولها إلى مئات المجسمات، والتحف الفنية، التي تصور الحياة والحرب فى ليبيا، وتم إطلاق اسم متحف الثورة على قصر المنار الذي تواجدت به أعماله، بالإضافة لكثير من الأعمال الفنية الأخرى وزار كثير من ضيوف ليبيا من سفراء الدول والوزراء قصر المنار لرؤية أعمال الفنان علي الوكواك، ولكن تلك الفرحة لم تدم طويلا، فلقد تم إزاحة كل أعماله، باعتبارها مجرد قطع “حديد وكربج” كما صرح أحد مسئولي الثقافة الجدد، وخصصت للفنان علي الوكواك غرفة صغيرة ضيقة مهترئة وقديمة من القصر وكأنه مجرد بواب بالقصر، ولم يعترف أحد من مسئولي الثقافة الجدد بأعماله و بتاريخه من العمل في مجال النحت الفني الذي لا نظير له في ليبيا، ولكن الاهتمام بالفن، والتقاط الجمال جاء من بلد أوروبي، رأت في موهبته الفنية كنزا يستحق الاهتمام والتقدير، ووضعه في المكان الذي يليق به، فقدمت له إيطاليا عرضا لإقامة معرض له في أفخم قاعاتها الفنية، وبعد ذلك عرضت عليه الإقامة في إيطاليا، وتوفير كل المواد اللازمة للاستمرار في عمله، بشكل يليق بفنه وقيمته الفنية، وقبل الفنان علي الوكواك العرض، وسافر لإيطاليا التي وفرت له المكان والجو المناسب لعمله، في الوقت الذي أهملته بلاده بكل العهود وتم التعامل معه بشكل مجحف وظالم خلق الإحساس والمرارة في نفسه والذي عبر عنه في حواره مع الصحفي والكاتب معتز بن حميد في عام 2013 ، كان الإجحاف والظلم وعدم التقدير للموهبة هو نصيب الفنان النحات العالمي الكبير علي الوكواك في عهد القذافي وفي عهد وزارت الثقافة بعد فبراير، وربما هناك غيره كثيرين ظلموا ولم يتم تقدير موهبتهم وأعمالهم الفنية، على مدى الخمسين عاما من عمر الفوضى وعدم التقدير في بلادنا، ولكن الاختلاف يكمن في أن الفنان الحنان علي الوكواك كان فنانا بمستوى عالمي فعلا، ولقيت أعماله الإعجاب والإشادة والنجاح حين خرجت من القمقم الليبي للتجاهل والجحود والمحاربة والنكران الذي مارسته الدولة الليبية مع مبدعيها الحقيقيين في عهد القذافي وما بعد عهد القذافي، لأن الفن الحقيقي يشع وينطلق ولا تخمد شعلته مهما حاول أخمادها الجاهلون والمحاربين للثقافة والفن الحقيقي المبدع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى