مقالات مختارة

صراع الكبار وتفادي الصدام

هال براندز

عندما سافر هنري كيسنجر زائراً الصين في عام 1971، لم يصنع سوى إنهاء ما يقرب من ربع قرن من القطيعة مع واشنطن. كما أنه أدار دفة الانقلاب الدبلوماسي الرامي إلى الفصل بين أهم أعداء الولايات المتحدة حينها – الصين والاتحاد السوفياتي – ومن ثم الوثب بالولايات المتحدة من موقف الإفراط الاستراتيجي إلى موقف المكاسب الاستراتيجية.
والآن، ومع حالة التأجيج المتجددة بين الولايات المتحدة وكلٍّ من روسيا والصين، تفيد التقارير الإخبارية بأن إدارة الرئيس ترمب تنظر في محاولة تكرار المناورة السابقة، وهذه المرة عن طريق التوافق مع روسيا على أمل تحويل موقفها ضد الصين المتنامية بصورة هائلة. وهي فكرة منمقة بالنسبة إلى القوة العظمى التي تجابه التحديات.
وللوهلة الأولى، فإن المنطق الجيوسياسي من ضرب روسيا والصين بعضهما ببعض يبدو أنه لا غبار عليه. فهذان البلدان يشكلان أكبر التهديدات الراهنة على النفوذ الأميركي وعلى استقرار النظام الدولي بزعامة الولايات المتحدة. وهما ينظمان الحملات الموازية للاستحواذ على مجالات النفوذ دولياً، وإضعاف التحالفات والشراكات الأميركية، وإظهار قوتهما على المسرح العالمي.
ومع ذلك، تنافست روسيا والصين في الماضي أكثر مما جمعهما التعاون المشترك؛ ودخلتا في مغامرات حربية ساخنة وباردة إحداهما ضد الأخرى. واليوم، لا تزالان تتنافسان على النفوذ الإقليمي في آسيا الوسطى وأماكن أخرى، ويُستفاد من دروس التاريخ أن دولتين بهذا الطموح الكبير والحجم الهائل وآلاف الأميال من الحدود المشتركة، لا بد أن تصطدما في وقت من الأوقات، وتدرك القيادات الكبيرة في البلدين ذلك الأمر تمام الإدراك.
في غضون ذلك، تقترب الولايات المتحدة الآن، وبوتيرة سريعة، من وضعية الإفلاس الاستراتيجي – وهي النقطة التي تتجاوز عندها التزاماتُها العالمية مقدرتَها على الوفاء بتلك الالتزامات. فإذا ما تمكنت واشنطن من تحقيق انفراجة جديدة مع موسكو، فقد يقلل ذلك من الأعباء الدفاعية الأميركية في أوروبا الشرقية التي تجابه الإمكاناتُ العسكرية فيها الكثيرَ من الإجهاد والتوتر في الفترة الأخيرة. ومن المؤكد أن الإدارة الأميركية الذكية سوف تتجنب المواجهة المباشرة مع كلٍّ من روسيا والصين في نفس الوقت، وربما حتى صياغة الشراكة الاستراتيجية مع روسيا للتعامل مع التهديد الكبير وعلى المدى الطويل الذي تشكله الصين.
وهذا هو المصير الذي نجح كل من هنري كيسنجر وريتشارد نيكسون في تفاديه قبل عقود، وإن كان الأمر يتعلق اليوم بالصين في مكان روسيا والعكس بالعكس. ومن واقع ملاحظة حالة العداء الواضحة والعنف المتزايد الناجم عن الانشقاق الصيني السوفياتي، شرعت إدارة الرئيس الأسبق نيكسون في إقامة العلاقات الثنائية مع الطرف الأضعف وقتذاك وهي الصين، وذلك بهدف تحقيق التوازن مع الطرف الأقوى وهو الاتحاد السوفياتي.
وعلى مدار السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، نجح المسؤولون الأميركيون في تحويل تلك العلاقة على نحو تدريجي إلى تحالف غير رسمي يتجه صوب احتواء وتقهقر النفوذ السوفياتي. وقال الزعيم ماو لهنري كيسنجر في عام 1973: «يمكننا العمل معاً لمواجهة الوغد»، وهذا ما صنعته الدولتان بالفعل، من خلال التعاون المتزايد بشكل تدريجي في المجالات الدبلوماسية والاقتصادية والاستخباراتية، وحتى العسكرية أيضاً.
إن المكاسب الاستراتيجية التي حققها ذلك التحول كانت هائلة. فلقد سببت الإزعاج الكبير للاتحاد السوفياتي – وكانت الولايات المتحدة تحاول، من وراء ذلك خلق توجه استراتيجي جديد في السياسة الدولية، وفي قارة آسيا، وفي العالم أجمع، على نحو ما أفاد أحد كبار قادة الكرملين في مذكراته. تعمد كيسنجر من خلال مناورته الدبلوماسية الثلاثية مواجهة السوفيات، وليس الأميركيين، بمعضلة مواجهة اثنين من المنافسين الأقوياء المتواطئين، مما يسهم وبشكل كبير في الانتصار النهائي للغرب في الحرب الباردة.
وكان ذلك هو القياس الذي كان الخبراء الاستراتيجيون من داخل وخارج إدارة الرئيس دونالد ترمب يضعونه نصب أعينهم عند الدفع في اتجاه التقارب مع روسيا كوسيلة من وسائل ممارسة المزيد من الضغوط على الصين. ومما يؤسَف له، أن تلك المماثلة لم تعمل بنجاح، على الأقل، حتى الآن.
والسبب الرئيسي في ذلك أن القوى الدافعة لروسيا والصين معاً هي أقوى بكثير من تلك القوى التي تفرق بينهما. وفي أواخر ستينات القرن الماضي، وصلت العلاقات السوفياتية الصينية إلى حافة الحرب – وربما الحرب النووية – نظراً إلى حالة التنافس المتفجرة على قيادة العالم الشيوعي. واليوم، تتفاعل كل من موسكو وبكين بعضهما مع بعض بلطف وهدوء. فهناك تعاون وثيق يجمع بينهما في عدة مجالات مثل تطوير التكنولوجيا العسكرية، والمناورات الحربية المشتركة في البقع الساخنة من بحر الصين الجنوبي حتى بحر البلطيق، إلى جانب تعزيز تقاليد الحكم الاستبدادي في العالم (مثل مفهوم «السيادة على الإنترنت»)، وتعزيز الحكم الاستبدادي في البلدان الموالية لهما من كازاخستان حتى فنزويلا.
وهما يفعلان ذلك لأن كلا البلدين يسعى بجدية إلى تقويض أركان النظام العالمي القائم الذي تتزعمه الولايات المتحدة، والذي يعتقدان أن يقف مثل العقبة الكؤود أمام هيبتهما ونفوذهما الدوليين. وجمعت المحادثات الثنائية قادة كل من روسيا والصين في غير مناسبة للتباحث رسمياً بشأن إقامة الشراكة الاستراتيجية في مواجهة تفوق الولايات المتحدة منذ تسعينات القرن الماضي، ويبدو أنهما قد بلغتا هذه المرحلة اليوم.
والدبلوماسية، رغم كل شيء، هي فن استخراج الفرص من رحم الصعوبات. فهل يمكن للولايات المتحدة كسر هذا المحور من خلال تطبيق سياسات أقل صدامية مع الرئيس فلاديمير بوتين؟ ربما، غير أن التكاليف سوف تكون بأرقام فلكية بكل تأكيد.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى