حياةكتَـــــاب الموقع

المدينة القديمة العملاق المخيف

مروة هابيل    

مساءً حوالي السابعة كانت السيارة تسير في خط مستقيم .. في أحد أوسع شوارع المدينة والذي يعتبر رحمها ومركز تجمع المتسوقين “شارع الفنار”.. في طريقي الي احدى أهم المكتبات والتي أعتبر نفسي زبونة منتظمة .. بعد ان أعادت فتح أبوابها حسب ماسمعت .. بعد ستة أشهر .. أغلقت فيها أبوابها كجميع أبواب المدينة تزامنا مع فتح فوهات جهنم وبراكين الجحيم.. ونسيت بأن المكتبة تقع في أخر تفرع من هذا الشارع..

آخر تفرع والفاصل بينه وبين كهف الظلام .. العملاق المخيف “المدينة القديمة”  ..

تاريخيا أنا أمام أقدم مسرح في ليبيا ..

جغرافيًا أنا علي خط طول 52.45  وخط عرض 22.40

زمنيًا أنا في ديسمبر 2018 ..

زمكنيًا أنا في عالم موازي..ومنطقيا أنا نائمة أشاهد حلم .. علي بعد عشرة أمتار .. ظهر أمامي فجأة وبدون مقدمات..وحش ليس يبدو ككل الوحوش التي كتبت عنها كتب التاريخ والحكايا التي دخلت الروايات وصارت أحجارا في المعابد وأسقف المصليات .. وحش بدين نهم .. يبدو كما لو أنه كان منذ الأزل..لايفعل شيء سوي مضغ الليل..وأي ليل الذي نزل علي سكان هذا المكان.. بقعة هائلة بدت من مكاني بحجم مدينة..كما لو انني لو مددت يدي.. سألامس شيء من خارج هذا الزمن..ولو تقدمت بالسيارة شبرا واحدا..لسقطت بي في هوة لربما اخذتني إلى بعد آخر غير هذا البعد..والحقيقة أن هذه كلها نصف الحكاية .. فالنصف الثاني وماجعل منها أغرب .. في المرآة .. خلفي مباشرة الحياة في أوج نشاطها.. الناس والأرصفة والسيارات..المحلات التجارية وزحمة على غير العادة ولوازم المدارس ومشتريات..أطفال تجرع بهم الشارع في مشهد بدا وكأنه محض تخيلات..لأول مرة ومنذ الستة أشهر .. أقترب للمدينة القديمة لهذا الح ..ظلت خندقا بممراتها الضيقة..وخطة استراتيجية ممتازة..صارت درعا قويا بعمقها وتلاصق ومتاهة جدرانها..أستخدمت اليوم مبيتا للعفريت الأعظم..الذي يأكل الليل دون شبع يلتهم السواد دون حساب يهبط على حساب النهار وعلى حساب ضوء الأمل..على بعد عشرة خطوات..ليس ثمة بهرة نور بحجم شمعة..فراغ يتقيأ فراغ..هول لامعني له ولا تسميات..جحر قديم يشبه كهف ليس له أول من آخر..بقعة سوداء دخلت برحابة كتب التاريخ ومجلداته ومعاجم الحرب..دخلت لتخبر عن نفسها..لتذكر المستقبل بألوفات العائلات المهجرة النازحة التي فقدت بيوتها هبطت أسقفها تخلت عن أبسط أحلامها..تنازلت وقدمت انسانيتها قربانا لتنجو نحو حرية كانت سجنا بتصاميم جديدة .

فيا أيها العقول النيرة والضمائر الحية والعيون المبصرة..”التنظيمات” الحقوقية والمجتمعات الدولية ونشطاء العالم والنشيطات..يا أيها الناس..لست هنا أكتب عن الموت في مدينتي..عن الخوف في مدينتي..عن الخسارات في مدينتي..أكتب عن منازل وبيوت وأسقف أهلها تشردوا تعذبوا تنازلاوا تغاضوا تلملموا..متهالكين تعدّ الأيام أصابعها تنازليا في أعينهم..علي أعتاب الأمل البعيد الباهت جلسو بحفنة صبر لم يكن لهم فيها خيار أخر يستهلكونها حتي أخر رمق .. حتي أخر دقيقة وأخر شهقة حياة تنفضها أجسادهم الميتة ..

مدينة الصحابة..وميدان الصحابة..وأهل وصحابة الصحابة..لؤلؤة برقة..إرث الإغريق سيدة إيراسا..هنا بيت درنة الثقافي..هنا سوق الخرازة سوق الفندق سوق الظلام والكنيسة القديمة .. جمعية الهيلع والوادي والشلال وماء عذب والبياصة..هنا التاريخ وهنا أهل الفن .. وصدر الفن..

متي تنبت لهذا العفريت جناحين يطير بعيدا يحلق تحط أسراب الحمام قمحا وخبزا وماء يهبط من دون حساب..متي ينموا النهار يخرج من بين صدوع الخوف متي تضاء ويعود أهلها يدخلون منازلهم يغسلون شراشيفهم يبعثرونها في الهواء الطلق تنزل تلطمها الشمس تخبرها عما جلبه لها ربيع الصباح يتنهد الشعاع الأبيض في دهاليزها يبتلع وجع شقوقها وآلام أرصفتها..يرممون بكفوفهم أهلها أعمدتها وعلى خشبة مسرحها يرتفع لحن جديد..يضيف غوغل وتويتر وفيس بوك وشريط عاجل الأخبار “تمت إعادة الكهرباء لأعمدة إنارة المدينة القديمة بعد إعادة صيانتها”.. ترفع عنها قطعة القماش الأسود يشبه لون الموت في بلدان الأمس..وخوف الأمس.. وأخطاء الأمس..ينتهي هذا الليل يا مدينتي الصغيرة..ينبت غصنا رغم أنف البارود..يدخل الوجع بابًا كبيرا يصفع بقوة..تفتح على مصرعيها..أبواب المدينة القديمة..منازل وبيوت المدينة القديمة..سكان وأهل المدينة القديمة..

المدينة القديمة “العملاق المخيف”

آخر مناطق الإشتباكات وأعمق بقعة مظلمة في صدري..أكلت درنة وأكلتني..استحوذت على عمرانها وسرقت تاريخها ومعالمها..كالسرطان كالخبيث..في ريعان الياسمين.

زر الذهاب إلى الأعلى