كتَـــــاب الموقع

يرضى القتيلُ وليس يرضى القاتلُ

طه البوسيفي

يرضى الناس بشظف العيش، بقلة الزاد، دافعهم إلى ذلك انعدام الحيلة، ما يُكوَّنُ حالةً من الرضا الممتعض تُمثَّل في جوهرها تنازلاً كبيراً ومؤلماً، لأن أشد أنواع التنازلات هو ببساطةٍ شديدة “أن تتعود”، أن تتأقلم مع الظروف المحيطة بك، أن تسمح لها بإعادة تكوينك، وتحضيرك، وتشكيلك، فتصبح شكلاً أنت نفسك تستغربه .

يرضى الناس وهو المقتولون الذين غُدر بهم، سُفك دمهم، حُزَّتْ رؤوسهم، ونحرت أعناقهم من الوريد إلى الوريد، يرضى هؤلاء، وليس يرضى القتلة، السفاحون، وهم طبقة التجار المتوحشين لا الأليفين ممن كشروا عن أنيابهم، وصارت دنانيرهم بأسنانٍ قواطع، مثل نيوب الليث، إن رأيتها بارزةً، لا تحسبنها تبتسمُ.

يقال إن رأس المال جبان، في ليبيا لا تسير الأمور وفق هذه المقولة، فرأس المال وصل بحسب تقديرات بعض المختصين إلى عشرين مليار، ثروةٌ هائلة تتحكم فيها حيتانٌ وتماسيح ظهروا على الساحة من بين أنقاض الفوضى، كثيرٌ من هؤلاء التجار يشترون ذمم مسلحين ينتمون لمجموعات مسلحة للاستفادة من حضورهم القوي لتمرير تجارتهم من خلال تزاوج المال والسلاح، لكنه حتماً لن يكون زواجا كاثوليكياً أبدياً، بل سينتهي به المطاف إلى قاعات المحاكم ليكون طلاقا ((بجلاجل)).

رأس المال يزيد كل يوم، وهموم المواطن تزيد هي الأخرى كل يوم، في ليبيا يغيب الضابط القانوني، والرادع الأمني، والواعز الأخلاقي، فيزداد التجار المرابحون ربحاً، ويزداد بالمقابل المواطن الفقيرُ فقراً، ينزل الفقير إلى الدرك الأسفل من الهاوية، ويصعد التجار خطوةً في سلم أبراجهم العاجية، يعانقون الثروة المجمعة من لحوم الضعفاء (وجهلهم ربما).

التاجر المتوحش وليس التقي الورع هو تاجرٌ شجع طماعْ، أطمعُ من طُفيل كما تقول العرب، وطفيل هو رجلٌ من أهل الكوفة، بلغ به الطمع مبلغَ أنه كان يأتي العزائم دون أن توجه له الدعوة، حتى نُسب إليه كل الطماعين فسموا بالطفيليّين، التجار المتوحشون تجارُ الفرص والأزمات هم جميعاً طفيلييون، وطفيليات تخرج من تربة الحروب .

هنالك وعيٌ بأن الهوة أصبحت سحيقةً ما بين المواطن صاحب الدخل المحدود وما بين التاجر المتوحش، هذه الهوة لا يبدو أن هنالك قدرةً على تقليصها، فالمؤسسات التي عليها أن تضع السياسات المالية والنقدية وأن تواجه التضخم الحاصل في اقتصاد السوق هي شبهُ عاجزةٍ على تصميم نموذجٍ يقلم أظافر المتوحشين ويقتلع أسنانهم التمساحية، فحتى ما سمي بسياسة الإصلاح لا تعدو كونها خطواتٌ على استحياء لا تستهدف سوى سعر العملات الأجنبية في السوق السوداء عبر فرض رسوم ضريبية وما أشيعَ عن ضخ الدولار في المصارف، لأن الأجوبة ناقصةٌ وغير قادرةٍ على الإقناع أمام أسئلةٍ ملحةٍ حول كيفية ضخ الأموال ؟ وشروط المنح للتجار ؟ والضامن لتطبيق هذه السياسات النقدية الجديدة وأيضاً الغطاء القانوني الذي سيرعى وسيحمي كل هذه الخطوات المزمع تنفيذها ؟، (إن نفذت طبعاً)، وإلى ذلك الحين استودعكم الله وأنا أقول وأكرر: لن يزداد التاجر المتوحش إلا توحشاً، ولن يزداد المواطن الضعيف إلا ضعفاً .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى