كتَـــــاب الموقع

هيرودوتوس والموضوعية

عمر أبو القاسم الككلي

من باب تحصيل الحاصل القول أن “تاريخ” هيرودوتوس هو أقدم وأهم مصدر في استقاء تواريخ الأمم القديمة المعروفة حينها. ورغم خروج الفلاسفة اليونانيين من إطار الأسطورة قبل هيرودوتوس بحوالي قرنين، إلا أنه استبقى الإيمان بالآلهة وتدخلها في حياة البشر، والإيمان بالمعجزات، ونبوءات العرافين والأشخاص العاديين، والبعد التنبيئي للأحلام. وهذا لا يقلل من قيمة عمله، فهو، في النهاية، ابن ثقافة عصره.
لكن الجانب الجدير بالإعجاب في منهج تأريخه هو تميز كتابته* بخصيصتين في غاية الأهمية، تتعلقان بما صرنا نسميه “الموضوعية”. فهو أبعد ما يكون عن التعصب لقومه (الإغريق)، إذ يشير في كثير من المواقع في كتابه إلى ما أخذه الإغريق عن ثقافات الأقوام الأخرى من مصريين وفرس وبابليين وليبيين، على مستوى الآلهة والعادات والأدوات. الخصيصة الثانية تتمثل في تعليقه على بعض ما يرويه، فأحيانا يقول أن هذا هو ما سمعه من القوم الفلانيين أنفسهم، وأحيانا يورد اكثر من رواية لموضوع معين ويحجم هو عن ترجيح رواية معينة موكلا إلى القاريء تصديق ما يراه قابلا للتصديق. كما أنه في عدة حالات يعلن أنه لا يصدق هذه الرواية ويورد تفسيره أو تأويله الخاص. وفي مرات يعلل هو بعض الظواهر.
فبشأن عدم التعصب والأمانة التاريخية يورد* أن الفينيقيين “علموا الهيللينيين (الإغريق) الحروف الهجائية كما علموهم أشياء أخرى”. ويقول أنه لاحقا جرى تغيير هذه الحروف ن ويقول انه “كان من العدل أن يقولوا انها قد أدخلها الفينيكيون (الفنيقيون) غلى هيلاس (اليونان) وكانت تسمى الفينيكية”.
أما في ما يتعلق بتعليل بعض الظواهر الطبيعية فيقول** بشأن الثيران قصيرة القرون [البُتر في الترجمة] يرى أن سبب قصر قرون هذه الثيران هو المناخ شديد البرودة (أي أنها لم تكن على هذا النحو من بداية ظهورها) ويستدل على وجهة نظره هذه باقتباس من هوميروس في الأوديسا، حين يقول:
“و [زرت] ليبيا حيث الخراف تخرج قرونا بسرعة ويصدق هذا القول لأن القرون في المناطق الحارة تنبت بسرعة، بينما في المناطق الباردة جدا لا تخرج الحيوانات قرونا أو إذا أخرجتها تكون قصيرة جدا”.
وفي فقرة أخرى يقول “حول الريش الذي يقول السكيثيون أنه يملأ الجو ولا يمكن اجتيازه وبسببه لا يمكن رؤية أقصى البلاد، لدي وجهة النظر التالية: إن الثلج يسقط باستمرار وراء هذه البلاد وبالطبع هو في الصيف أقل مما هو في الشتاء، لذا فإن الذي يشاهد الثلج عن قرب وهو يسقط بكثافة سيعرف ما أقول لأن الثلج يشبه، الريش […] أعتقد أن السكيثيين وجيرانهم يشبهون الثلج بالريش”.

* تاريخ هيرودوتوس. نقله عن الإغريقية الأستاذ الدكتور محمد المبروك الدويب أستاذ اللغات القديمة بقسم التاريخ والآثار. كلية الآداب- جامعة طرابلس. وزارة الثقافة والتنمية المعرفية (د. ت). ص 374.
** نفسه. ص 281- 282.

زر الذهاب إلى الأعلى