حياة

هل كل رواية هي سيرة حياتية؟

خاص 218| خلود الفلاح

هل كل رواية هي سيرة ذاتية بشكل ما، والروائي حين يبتكر شخصية ما سواء محورية أو هامشية تحمل رؤياه وفكره، وبالتالي هو يعيد كتابة نفسه. أم أن الخيال واليومي والآخرين هم من يشكلون العمل الروائي بصرف النظر عن علاقة الكاتب بهم. في هذا التحقيق هناك من أقر بأنه يكتب سيرته وهناك من رفض ذلك.

يشير الروائي العراقي هيثم الشويلي إلى أن كل كاتب يمتلك مخزونا ذاتيا وشخصيا يعتمد عليه أثناء الشروع في أي عمل روائي يقوم بكتابته، وعند كل كاتب سيرة ذاتية محفوظة ضمن مخيلته وما مر عليه طوال حياته أو أثناء فترة قراءته للكثير من الكتب، تجتمع كل هذه المقومات لإنتاج فكرة ما تجول في نفس الكاتب، ولذلك عند الانغماس بالنص والتعمق في أحداثه ينساب جزء من سيرة الكاتب ضمن الإطار النصي للرواية، وبالكاد يختفي الكاتب خلف العديد من شخصياته التي يطرحها، فقد يلقي بجزء من سيرته بشخصية هامشية، وقد يلقي جزءا آخر على شخصية رئيسة وقد يكون الراوي نفسه يطرح نصاً كاملا لسيرته نفسها. موضحا: “في أغلب رواياتي التي كتبتها لا أخفيكم سراً أن بعضاً من سيرتي حاولت أن أموه بها فقسمتها إلى أقسام ووزعتها على العديد من شخصياتي التي تناولتها في أعمالي الأربعة.”

وفي المقابل، ترى الروائية الفلسطينية نسمة العكلوك أن الكاتب متورط لا محالة في أحداث الرواية بالنسبة للقارئ لذلك نجده يبحث عن الخيط الذي يدله على الأحداث المرتبطة به. خاصة إذا كانت الرواية على لسان الحال (الأنا). أما في رواية السارد العليم (الطرف الثالث) يصبح البحث والشك أعمق لديهم وبالتالي سيبحثون عنه داخل الشخصيات. أكتب ما أشعر به ويمثلني. الكتابة هي عمل محايد والتحدي الكبير يقع على عاتق الكاتب. وهذا ما دعا إليه فولتير (يجب أن يكون الروائي في عمله كالله في الكون، حاضرا غائبا).

ترميم الواقع

يقول الروائي اليمني محمد الغربي عمران أن أولى محاولاته لكتابة سيرته كانت العام 2009 مع أولى رواياته (مصحف أحمر). عندما وضع نفسه في موقع الشخصية المحورية ألا وهي شخصية الأب. مستطردا “مع استرسالي في الكتابة وجدت أن شخصية الأب قد تضاءلت لتنتهي إلى أن تكون شخصية ثانوية. وأجدها بعد تتمة الرواية وقد عاشت حياة غريبة لا تشبه حياتي.”

ومع بداية كتابة روايته الثالثة (الثائر) خطط لكتابة سيرته. بعد أن حشد ذكرياته من جديد. لكن الخيال مرة ثانية كان له بالمرصاد. ليذهب به بعيدا بعد عدة صفحات. وقد خطت شخصياتها مسارات جديدة.

وعاد للمحاولة مجددا مع روايته الخامسة (حصن الزيدي). تقوده رغبة لكتابة سيرته بعد أن تحايل على هيمنة الخيال باختياره لمكان طفولته. ذلك الحيز من العالم الذي أحس بأنه جزء منه. ورغبِ معرفة تضاريسه بما تحيطه من جبال سامقة. هذه الرواية علمته المزج بين جموح الخيال وجمود المكان.

واعتبر الروائي العراقي نوزت شمدين الرواية محاولة لترميم الواقع بالخيال. وهي عصارة لتجاربنا الحياتية، لذا فمن الطبيعي أن يتسرب شيء منا إلى شخوصها. صفاتنا أو رؤيتنا للأشياء وربما الاثنين معاً، ويضيف: “كثيراً ما أعيد إحياء مواقف من مقبرة الذاكرة وأبث فيها الحياة مجدداً في رحلة بناء العمل وأستعير ملامح أناس أعرفهم أو مروا بي صدفة ذات يوم، تصرفاتهم، طريقة كلامهم، مشيتهم نبرة أصواتهم ومهما حاولت التملص من ذلك إلا أن يدي تمتد وتأخذ قطعة مني لتكمل بها الصورة. ولو أن كل روائي أشار بإصبع الاعتراف إلى نفسه في عمل كتبه لحدثت فضائح كبرى.”

وتحدثت الروائية نسمة العكلوك في روايتها (نساء بروكسل) عن خمس شخصيات نسائية، الشخصية الأوروبية داخل العمل تحدثت بلسان الحال بما أنها بلجيكية وهذا أبعد الشك عنها لكن الشخصيات النسائية الأربعة الأخرى من أصول عربية ونوع السرد المستخدم هو السرد العليم مما أوقعها ضحية للتحقيق والتحليل من قبل القراء لكي يتعرفوا عليها في الرواية من خلال الأسئلة التي يوجهونها لها بعد الانتهاء من القراءة. وتابعت: أكتب ما يثير حفيظتي الواقع والحياة اليومية تلهمني. الخيال يساعدني لأنني غير جيدة بالتحدث عن نفسي فما بالك بكتابة رواية سيرة ذاتية عني.

سيرة ولكن

وهنا نسأل الروائي هيثم الشويلي عن رفضه للروايات التي تصنف ضمن السيرة الذاتية، فيقول: الكثير من الروائيين لا ينقلون حقائقهم. بمعنى لم أجد شخصاً يضع هفوة عليه أو يسجل نقطة سلبية على تصرفاته ويقول بأنني بقعة سوداء في تاريخ هذا الكون الفوضوي، فيلجأ أغلبهم للتستر خلف الشخصيات الأخرى التي يكتبها الكاتب لقول ما يريد قوله أو قول ما عجزت الحقيقة عن إيضاحه، ولذلك فالكتابة هي الوسيلة الوحيدة للهروب من الحقيقة المرة التي يمتلكها الكاتب نفسه ليلصقها في شخصياته الورقية التي يدون كل تفاصيلها على الورقة البيضاء. لكن هذا لا يخفي عن الجميع وجود كتاب أبطال لا يخشون كتابة حقائقهم في النص الروائي وأتذكر أنني قرأت رواية للكاتب العراقي سليم مطر (مذكرات رجل لا يستحي) أعتقد هذا الرجل كتب أغلب الأشياء بفضائحها وحقائقها ولم يخفِ أي شيء عن القارئ ليقول أمام الملأ إن هذه سيرتي الذاتية أنقلها لكم حرفياً على الورقة البيضاء.

على خلاف الشويلي يقول الروائي الكردي جان دوست: كتبت في رواياتي (دم على المئذنة) وكذلك (كوباني) فصولاً من حياتي الشخصية الحقيقية. لا أعرف لماذا فعلت ذلك لكنني وجدت حاجة ملحة ورغبة عارمة لأشارك قرائي بعضاً من سيرتي الذاتية المتعلقة بالأمكنة التي جرت فيها فصول من الحرب السورية. ارتبط لدي المكان الذي هاجرت منه بمشاعر هائلة من الحنين ثم تحولت تلك المشاعر إلى حزن وغضب كبيرين حين رأيت أمكنتي الأثيرة تتحول إلى ساحات حرب. لم أكتف بالروائي بل ضمنت بعضاً من سيرتي في مجموعتي الشعرية الأخيرة.

من جانبه، قال الروائي نوزت شمدين إنه لا يعيد تدوير نفسه فيما يكتب، مع أن ذلك قد يحدث بالفعل. ولكن هذه هي الحقيقة فنحن وكما قال ماركيز (نكتب عن الأشياء التي نعرفها.)، وأضاف: “في روايتي (شظايا فيروز) هنالك شخصية مدمنة على كتابة إحصائيات الموت. وكانت حصيلة جهد أكثر من ستين سنة في غرفة كبيرة جداً مختنقة بسجلات الموت. شخصية خيالية لا يمكن أن نقابل مثلها بسهولة في الواقع. لكن ماذا لو استمر الشاب الذي كنته قبل ثلاثين سنة في القيام بذات الأمر؟ إنه ببساطة أنا في مرحلة ما من حياتي وما فعلته أنني مزجته بالخيال ومنحت تجربته عمراً إضافياً وجعلته يتحرك في مسرح آخر غير حياتي التي عشتها.”

ويتابع بالنسبة للشخصية الرئيسية في روايته (سقوط سرداب) يعيش في السرداب أكثر من اثنتي عشرة سنة هربا من أن يلاقي مصير أبيه الذي اختفى في الحرب مع إيران. ولم أكن بحاجة لكي أتخيل شكل الوحدة والبقاء معزولاً عن العالم مع جبلٍ من الكتب، فقد عشت ذلك بنفسي لكن بدون جدرانٍ أو قضبان. ثم من غيرنا يمكنه الكتابة عن الحرب وويلاتها؟ كنت في السابعة من عمري حين سمعت أول صفارة إنذار أعلنت الحرب مع إيران. وحين بلغت السابعة عشر عصفت بنا الصحراء وبقينا عالقين برمالها ثلاث عشرة سنة. وأصبحُت في الثلاثين حين سقط النظام السابق ودارت حروب الكر والفر في شوارعنا حاصدة الناس والكثير جداً من أحلامنا. أليست مواجعنا مناجم كتابية كبيرة؟

ويؤمن الروائي جان دوست أنه بعد أن كتب اثنتي عشرة رواية، أن الكاتب يعتمد على خبرته في الحياة وتجاربه في الحب وما يمر به من أحزان وأفراح وتقلبات في شتى مجالات الحياة. الحياة مصدر غني لأي كاتب، والحياة التي يعيشها الكاتب، منذ الطفولة ومروراً بمرحلة الشباب مصدر مهم للكتابة. لكن السؤال هو إلى أي مدى يمكن أن ينجح الروائي في خداع القارئ وإيهامه بأن مصائر أبطال رواياته وحيواتهم هي لأشخاص آخرين ونتاج مخيلة الروائي نفسه؟ والسؤال الآخر، هل من الضروري أن يوارب الكاتب ويخادع أم يجوز له بسط فصول من حياته وتجاربه الشخصية على مائدة القارئ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى