كتَـــــاب الموقع

مهمة اللغة في العمل الأدبي

عمر أبو القاسم الككلي

تتمتع اللغة بمرونة كبيرة تُمكَن من تكييفها وفق طبيعة مجالات الكتابة المختلفة. فلغة الكتابة في مجال علمي، مثل الفيزياء والطب، هي لغة “واصفة” تصف الظواهر الطبيعية، والجسد وما يعتريه من حالات الصحة والمرض. ولغة الفلسفة والفكر لغة “إقناعية” تشرح الأفكار بأقصى قدر مستطاع من الوضوح والدقة، وحتى الإيجاز،وتخاطب العقل. وفي الآنثروبولوجيا والتاريخ، مثلا، تعتبر لغة “إخبارية” لأنها تركز على تقديم معلومات. طبعا هذا تجريد اختزالي، لكنه مفيد، مبدئيا، كإجراء، في إعطاء خطاطة تصنيفية لوظيفة اللغة في هذه المجالات المعرفية.

بالنسبة إلى الأدب، والشعر بوجه خاص، تتولى اللغة وظيفة مختلفةتماما، يمكن وصفها بأنها وظيفة “تعبيرية”. فلغة الأدب لا تصف ولا تقنع ولا تخبر، إنما تعبر. مؤكد أنه غالبا ما يحتوي العمل الأدبي، السردي بالذات، على الوصف والإقناع والإخبار، ولكن هذه العناصر تكون داعمة للجانب التعبيري ومتداخلة معه والإكثار منها يخل بالعمل الأدبي بما هو عمل جمالي يستهدف،عبر التكثيف الجمالي، الذائقة، وليس العقل.

خاصية اللغة التعبيرية أنها تُدخل الألفاظ المتباعدة في علاقات جديدة غير مسبوقة، يترتب عنها إنتاج تركيب دلالي جديد. وفي السطور التالية سنقتصر على أمثلة من الشعر.

فعندما يقول الشريف الرضي في البيت الشهير:

“وتلفتت عيني، فمذ حفيت عني الطلول، تلفت القلب”

فهو هنا يعقد وشيجة جديدة غير مسبوقة بين فعل التلفت والقلب. كان بإمكانه أن يقول “تفطر” أو “توجع” القلب، مثلا. لكنه بإسناده فعل التلفت إلى القلب، الذي ليس التلفت من خصائصه الطبيعية،أنتج حالة تعبيرية جمالية باهرة، تعبر عن شدة الحنين والشوق وتغلغل الحب وحضور الحبيب في وجدانه. الشريف الرضي هنا لا يصف ولا يقنع ولا يخبر، على الرغم من تضمن الإخبار في البيت، وإنما يعبر. وفي تعبيره الإبداعي هذا تكمن شهرة هذا البيت عبر الزمن.

في إحدى قصائده المكرسة لصديق رسام لبناني، قتل أثناء الحرب الأهلية في لبنان برصاصة طائشة، وهو ينتظر دوره فجرا أمام أحد المخابز، يصف محمود درويش، من ضمن ما يصف به هذا الرسام الصديق، بالقول:

“… ورديئا عندما يولع بالفجر”!.*

فهنا يحول محمود درويش صفة هجائية منفرة، من خلال ربطها بالولع بالفجر، إلى صفة مديح. فجوانح هذا الرسام ذات حساسيةمرهفة للجمال، ومن خلال ولعه بالفجر (= النور الوليد، توضح الألوان وتداخلها، تفتح الشفافية والأفق) يمكن أن تؤدي به لحظة الولع الكثيف هذه إلى أن ينسى ما حوله، وقد تخرج به الاستثارة الجياشة عن طوره فيغني أو يرقص أو يهتف في تواجد صوفي، في أمكنة وحالات لا يستوعب فيها الحاضرون حالته الوجدانية هذه، وقد ينزعجون منه ويرمونه بعدم اللياقة أو بالجنون.

كتبت إحداهن على صفحتها في الفيسبوك:
“أحبك حبا شاهقا”. أو بتعبير قريب.

فعلق أحدهم مستنكرا أن يكون الحب شاهقا. أما أنا فقد رأيت في هذه الجملة حالة تعبيرية أخاذة. لقد كانت أمام صاحبة هذه الجملة حزمة من الصفات التي يمكن أن تسندها إلى الحب، فهناك عميق وشديد وقوي وعارم وغامر وعات وعنفواني وجامح وملتهب وحارق… لكنها تغاضت عن هذه الصفات كلها وابتدعت للحب صفة غير مستعملة أملتها عليها لحظة الإبداع الكثيفة. وينبغي ألا ننسى أن “شاهق” لها صلة جذرية وطيدة بـ “الشهقة” الدالة على الذهول والاندهاش. فكأنها تقول هنا “أحبك حبا مذهلا”. كما أن لهذه اللفظة صلة بـ “الشهيق” الذي يتم فيه إدخال مادة الحياة (الأوكسجين) إلى الجسد، فيسري في الرئتين والدم والقلب ويبث الحياة في الكيان الجسدي كله، كما يسري الحب في الكيان الوجداني، وكأنها تريد أن تقول له “حبك محيٍ” أو “يحييني” أو “حبك يسري في أعماقي”، الأمر الذي يجعل صفة “شاهق” هنا تمتزج بصفة “عميق”، فيصبح الحب عميقا شاهقا، يتغلغل في الأعماق ويشهق على السطح.

*

أكتفي بهذه الأمثلة للتدليل على اختلاف مهمة اللغة في الأدب عن مهماتها في مجالات كتابية أخرى. وخاصية التعبير هذه في لغة العمل الأدبي هي ما يطور اللغة والأدب، وذائقة المبدع والقاريء على السواء.

أختم بالقول أن هذا النوع من الأدب الإبداعي المعبر عن حساسية جمالية مرهفة، يحتاج إلى قاريء تنطوي ذائقته الجمالية على هذا الأفق العام لهذه الحساسية. قاريء لا ينتظر أن تعطى له المعاني والدلالات معلبة جاهزة، مثلما يتلقى وجبة طلبها من مطعم أوصى بإيصالها إليه.

 

* قرأت هذه القصيدة عند نشرها أول في أحد أعداد مجلة “الآداب” في سنة من سنوات السبعينيات. وعندما أعاد درويش نشرها في ديوان استبدل بها تعبيرا آخر. لكنني أرى أن هذا التعبير أكثر إبداعية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى