مقالات مختارة

«مقبرة المياه».. عبدالمطلب الهوني والهروب من الواقع إلى الأساطير

عاطف محمد عبدالمجيد

في الطبعة الثانية من روايته «مقبرة المياه» الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، يطرح الكاتب الليبي محمد عبدالمطلب الهوني عددًا من الأسئلة، منها لماذا قسّم الإنسان الزمن على وقع شروق الشمس وغروبها، وليس على أهمية الأحداث التي تدور تحت مدارها؟ ولماذا لا يكون لكل إنسان زمانه، فيُقاس العمر على زخم وقائع الحياة، لا على توالى الليل والنهار، برتابته الأبدية؟ مقبرة المياه التي تبدأ بمشهدٍ لكابوس رآه زكريا الذي يقيم في منزل ليزا الإيطالية التي رحل عنها زوجها ماريو تاركًا لها منزلًا تحيط به مزرعة صغيرة، وقد عهدت الكنيسة إلى ليزا بإيواء زكريا المهاجر في منزلها، تناقش فكرة الزمن وما جدواه متأرجحة بين الموت والحياة، كما تناقش هجرة الأفارقة والعرب إلى أوروبا، مشيرة إلى أن السيد المسيح جاء لخلاص البشرية كلها، لا المسيحيين فقط. الرواية تناقش كذلك حالة الازدواجية التي يعيشها البعض، خاصة الأعيان، إذ يذهبون إلى حفلات المجون وبعدها يدخلون المساجد لأداء صلاة الجمعة في خشوع ظاهري، هنا تضعنا الرواية أمام شخصية تتعايش مع الحياة وكأنها مرض مزمن، تتعود الأعصاب الناقلة للألم على اعتباره قاعدة لا استثناء لها، فيستحيل إلى عافية من نوع خاص. هذه الشخصية تحاول الاختباء في ذات أخرى بديلًا عن ذاتها التي تحتقرها.

الرواية تقول لنا كذلك إن هناك أفرادًا يريدون أن يحملوا أخطاءهم وخطاياهم على شماعة القضاء والقدر، كما نعرف هنا أن رفاهية الإنسان لا تعنى إلا بؤس الطبيعة، وتراكم البؤس لا يُفضي إلا إلى الثورة. كما تريد أن تقول لنا إن هناك أفرادًا يعيشون في عالم الأساطير طوال الوقت، هاربين من الواقع الذي يرفضونه جملة وتفصيلًا، كذلك تقول إن رجال الدين هم الذين يعرفون سطوة الغموض على عقول العامة، كما أن الكلمات لا تكتسب قداستها إلا من غموضها.

الرواية تتساءل كذلك: لماذا لا يطيل الله الزمن من أجل الحب؟ مشيرة إلى التقاليد العربية التي تحرّم على اثنين أن يتبادلا القُبل إلا إذا كانا أجنبيين، كذلك تناقش الرواية فكرة الخيانة، وهي ترى أن بعض البشر أكثر نجاسة من الكلاب، وهنا نقرأ عن الخيانة والإحساس بها: «كان إحساسه بذنب الخيانة أقل وطأة، أو ربما كان يتذرع بكل ذلك حتى يجد مبررًا لتلك الأشهر التي قضاها متنقلًا بين أفخاذ شاسا وشفاه نرجس».

في الرواية نجد نظرة فلسفية ما، إلى جانب خبرات حياتية كبيرة: «إكسير الشبق عندما يترع من كأس اللذة قد يتحول إلى ألم، واللذة إذا تمددت في الأزمان قد تُشعر الإنسان بأنه على حافة الهلاك»، كما ترى الرواية أن الإحساس الساحق بالموت هو ما يدفع الإنسان إلى الارتماء في أحضان اللذة.. وفيها نجد موقفًا من كلٍّ من رجال الشرطة ورجال الدين، ينبع هذا الموقف من أن كل فريق من هؤلاء يريد فرض سلطته وسطوته على الجميع، كلٌّ بما لديه من آليات ووسائل، هنا أيضًا نرى أنه من الممكن أن نُدمر أنفسنا خوفًا من القادم الذي لم يتبين كُنهه لنا بعد: «مدينة دمرت كل أسوارها وقلاعها بمحض إرادتها، خوفًا من الحصار!».

كما نعرف هنا أيضًا أن المغمورين بنعمة الشيطان ليسوا بحاجة إلى لعنة دور العبادة، ونعرف أن الحياة تختلف من مكان لآخر، ففي مكان تبدو الحياة أكثر حميمية ومرحًا وبها حرارة المساكنة، بينما تبدو غير ذلك في أماكن أخرى، الرواية كذلك تسلط الضوء في اتجاه بعض الأحداث التاريخية، ومنها الثورات قديمًا وحديثًا، وكيف تراها الشعوب، وكيف تراها الأنظمة والموالون لها. كما تُرينا صورة للأثرياء الجُدد الذين تكاثروا مع الانفتاح الاقتصادي، مقبرة المياه تقارن وبشكل غير مباشر بين حياة الكثيرين هنا وبين حالة الكلاب المُرفهة هناك، واصفة إياها بالمحظوظة، إذ تلقى من الرعاية الاجتماعية والإنسانية والطبية ما لا يلقاه الإنسان في معظم بلداننا العربية.

ما يحزن هنا هو أن الرواية ترى أن كلاب أوروبا أحسن حالًا، وهي التي يُعتنى بها عناية لا يتلقاها المواطن السوري الذي يعاني من الفاقة والتشرد. هنا أيضًا تقول الرواية إن كثيرين يرون المُصْلحين مندسين جاءوا لإفساد الحياة التي وجدوا عليها آباءهم وأجدادهم. الرواية التي ترى أن النُدرة هي التي تُفرق بين التبر والتراب، تؤكد أن هناك من يتركون الجانب المُخوّل لهم به ويدسّون أنوفهم فيما ليس لهم به شأن: «فكّر في هذا القسيس الذي يدس أنفه في ما لا يعنيه.

إنه مكلف برعاية الأرواح، فما باله يبسط هيمنته على الأجساد كذلك؟».

مقبرة المياه التي تُصوّر ساكني الصحراء بأنهم يساكنون العدم، ويترحلون معتقدين أنهم يبحثون عن الكلأ والماء، لكنهم في هروب دائم من استعباد الصيغ الجاهزة للتعايش، ويوصفون بأنهم قُطّاع طرق، غير أن آثار أقدامهم على الرمال لا تلبث أن تمحوها الرياح، ترى أن أحاجيّ الجمل المبتورة هي بداية لاجتراح لغة خاصة بين شخصين بدآ يدخلان ملكوت الحميمية في مقبرة المياه التي يقول لنا فيها محمد عبدالمطلب الهوني إن البعض يفضل أن يشقى بخطيئته حتى الموت، بحثًا عن التطهر مما جناه طوال حياته، يجعلنا نعيش معاناة المواطن العربي، السوري نموذجًا، وتعرّضه للتشرد ومن ثم للهجرة إلى العالم الآخر موتًا، أو ترحالًا إلى بلد يرضى به لاجئًا، كما يناقش فيها أفكارًا وقضايا إنسانية مازالت تحتاج إلى إطالة النظر إليها وفيها، لإيجاد حلول لها، تعمل لصالح الإنسان، لا لتعذيبه وفنائه مثلما يعمل البعض ولا غرض لهم إلا تلاشي كل ما هو إنساني.

المصدر
المصري اليوم

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى