كتَـــــاب الموقع

(معجزة الشعر)

المهدي التمامي

كثيراً ما تظهر علينا وسائل الإعلام بعدة تنويعات لما يسمى بأزمة الشعر، كمثل: موت الشعر، تراجع دور الشاعر أو نهايته، عصر الرواية، عصر التقنية، والحقيقة أن المشكلة الرئيسة، كما أراها، تكمن في عدم وجود من يقرأ الشعر حتى من الشعراء أنفسهم، وثانيًا في فهم وظيفة الشعر أصلاً.

إن الشعر لا ينقل إلينا أخبارًا عن أشياء أو عن أشخاص، وإنما وظيفته في كونه يحاول أن ينقل إلينا صوًرا لحالات تبحث عن الخلود، تلك الحالات التي تتكرر كأنها قانون سرمدي؛ فالمشاعر هي نفسها على امتداد العصور، أو كما يعرّفها عالم النفس الشهير “يونج” في عبارة “الصورة الأصلية” وهو التعبير الإجمالي عن المسيرة الحية.

إن معجزة الشعر اأنه يقول الأشياء مداورة، وهذا ما يمنحه قوته، وهنا يكمن سر حياته المتجددة؛ وخلوده.. كما أن هذه المداورة هي التي تمنح الشعر قدرة وطاقة غير موجودة في الكلام العادي.. إنها باختصار المخيّلة والاستعارة، ركيزتا الشعر الذي لا يهرم.

لم يعد الشاعر مسؤولاً عن الأخلاق في مفهومها التقليدي والمباشر، وإنما هو مسؤول أمام الشعر، بل أمام الفضيلة التي تتناسب معه كشاعر، ومسؤول حيال الذات وضعفها حيال الطغيان بكافة أشكاله،كما أن جوهر الشعر الحديث ينحصر في طرح الأسئلة على الذات، وعلى العالم، وعلى الشعر أيضًا، كمحاولة تائقة للعودة بالعالم إلى صفائه وتناغمه.

وعلى الرغم من ريادة العلم والتخصص وهيمنة وسائل الإعلام؛ إلا أن الإنسان ما يزال يعيش بتلك الحساسيات الفطرية تجاه كل ما استعصى عليه فهمه، وما تزال غالبية الأسرار القديمة تشكل قلقاً له، لأن العلم لم يكتشفها بكاملها حتى اليوم؛ فكلما تقدم العلم فإن الإنسان يجد نفسه غارقًا في الغموض وضائعًا مع الأسرار ومندهشاً أمام كل اكتشاف جديد.

ربما كان الشاعر هو الوحيد الذي لا تقلقه تكهنات المستقبل المرعبة والتحولات الهائلة التي يشهدها الكون،كما أن روح الشاعر هي الوحيدة القادرة على البقاء والصمود بعد تآكل الجماعات والأنظمة؛ فالشعر له “أرواح القطة السبعة” كما يرى الشاعر بابلو نيرودا، فقد يزعجون الشعر، قد يجرجرونه، قد ينفونه، قد يحسبونه، قد يفرغون فيه أربع طلقات، لكن الشعر يخرج من هذه الحوادث، العرضية، كلها بوجه نقي وبابتسامة من أرز.

إذن؛ الشاعر لم يأت ليخدم الأخلاق، بل ليلغي الفكرة الأفلاطونية التي تقول إن “الفن عموماً يبدأ وينتهي بالمقدس”.. وقد أثرت هذه الفكرة في عدد من الشعراء.. ولا ننكر أن الشعر قد يخدم الأخلاق في استثناءات نادرة تأتي غالبًا بطريقة عفوية. إذ كان دور الشاعر في العصر الحديث أصلاً هو كسر قوانين العلم المطردة، وإحالتها إلى أحلام ورؤى.. ليجد الشاعر، كما عبّر عن ذلك (فرويد).. طريقًا للعودة من عالم الخيال إلى عالم الواقع وهو يصوغ تهويماته بمواهبه الخاصة نوعًا آخر من الواقع، وليجد ذلك التحول تبريراته في كونه تأملات ذات قيمة في الحياة الواقعية. وهذا سر الإعجاز في الإبداع عمومًا. وربما هذا ما يجعل الشعر غير خاضع لدائرة المنطق وصرامته، ويجعله أيضًا قادرًا على إعادة ترتيب اللغة ترتيباً غير مسبوق، ليناقض كل ما هو مستهلك واعتيادي.. وهذه فضيلته.

إن الشعر مصدر عظيم للتفاؤل كما يراه أهم الأسماء الشعرية في العصر الحديث “ت. س. إليوت”؛ فمن الممكن أن يغير في المدى البعيد مشاعر الناس وكلامهم وحياتهم، سواء في ذلك منهم من يقرأ الشعر ومن لا يقرؤه، وذلك إلى الحد الذي يصعب معه تتبع هذا الأثر أو التدليل عليه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى