مقالات مختارة

مخاطر «المباراة الصفرية» في السودان

د. حسن أبو طالب

يمر السودان بلحظة عصيبة تتكالب فيها الأزمات، وتضيع فيها الثقة بين القوى السودانية بعضها تجاه بعض، وتُرفع فيها الشعارات الزاعقة، وتمارِس فيها القوى السياسية ألواناً شتى من السياسات المتضاربة. فهناك القوى الموصوفة بالثورية التي تحرّك الشارع وتمنح لنفسها شرعية الحديث عن مطالب الأمة السودانية بأسرها، تقابلها قوى أخرى تصنِّف نفسها بالواقعية، وترى أن المرحلة الانتقالية الثانية التي بدأت بالاتفاق المُعلن في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بين رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك، العائد إلى منصبه بعد فترة احتجاب قسري، يجب استثمارها في تصحيح المسار السياسي برمّته وتطوير المكتسبات الاقتصادية التي تحققت في الفترة السابقة قبل إعلان البرهان الإجراءات الاستثنائية في 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، التي وصفها بالإصلاحية والضرورية.

المظاهرات التي انطلقت خلال الأسابيع الأربعة الماضية، ومُعلنٌ عن استمرارها حتى آخر يوم في العام الجاري ومحتمل أن تستمر أيضاً في العام الجديد، والتي وصلت إلى أبواب القصر الرئاسي وبعض ساحاته الداخلية، وتدعو لها لجان المقاومة، لا تمثل أداة ضغط على مكونات الحكم الراهنة، وقوامها البرهان وحمدوك، كممثليْن للمؤسسة العسكرية والقوى المدنية، بل أيضاً أداة ضغط على كل المكونات السياسية والمدنية التي تدعم تلك المظاهرات، وتراها الأسلوب الأمثل، وربما الوحيد، لتحقيق الشعار الرئيسي الداعي إلى حكم مدني كامل وعودة القوات إلى ثكناتها. وبالقطع هناك مساحة تباين في حجم الضغط على كل فريق، وتباين آخر في مدى تنوع الأدوات التي يملكها كل طرف ويمكن أن يوظّفها لإفشال رؤية الطرف الآخر.

المتمسكون بشعار «لا تفاوض… لا شراكة… لا شرعية»، ويراهنون على أن الشعب السوداني، وهو يعاني من أزمات اقتصادية طاحنة ويطمح إلى اليوم الذي يستعيد فيه توازنه بشكل عام، سيظل على حراكه الثوري وتضحياته الكبرى حتى يسلّم «المكون العسكري» كل أوراقه ويقبل بالمحاسبة الكاملة التي تتحدث عنها أدبيات «قوى الحرية والتغيير» والحزب الشيوعي والتجمعات المهنية المستقلة وجماعات المقاومة، ويرفضون أي نقطةٍ وسط للتلاقي مع المكونات والقوى الأخرى، بما في ذلك الرجل الذي نزلوا من أجله الشارع بعد قرارات 25 أكتوبر الماضي… هؤلاء يمثلون في الحقيقة تياراً ثورياً رومانسياً إلى حدٍّ كبير، تَكرَّر وجوده في كل الثورات الشعبية العربية وغير العربية، ولكنه اصطدم بعقبات شتى. ورغم توافقهم العام على صيغة «كل شيء ولا تنازل عن الحد الأقصى»، فإنه يوجد بينهم قدر من الانشقاق، ويفتقرون إلى قيادة أو رمز ذي سمت قومي وعابر للتجمعات الحزبية والقبائلية والحضرية، يمكن الوقوف وراءه، ويعبّر عنهم ويتفاوض باسمهم وباسم جموع الشعب. والأهم أن يرتضيه الشارع ويمنحه شرعية الثورة والتغيير. وتلك مشكلة كبرى تواجهها كل القوى الثورية الرومانسية في مراحل الأزمات التي تُعد بداية لتحولات عميقة، ليست بالضرورة تحولات تصب في طموحات الناس وأمانيهم في حياة أفضل، بل قد تقود إلى العكس.

بمعنى آخر، أن التركيبة النفسية السياسية التي تريد كل شيء وتمنع عن المختلفين عنهم أو من يعدّونهم الخصوم الرئيسيين كل شيء، تضع الجميع في معادلة «المباراة الصفرية»، وبالتالي تحفّز الطرف أو الأطراف الأخرى على استخدام كل ما لديها للدفاع من نفسها وبقائها ومصالحها. ومَن يتأمل واقع السودان وخصائصه التعددية العميقة في كل شيء، يدرك أن هذه التركيبة الصفرية لا تناسب الواقع السوداني بأي حال، ولا تسهم في حل مشكلاته، بل غالباً ما تزيدها تعقيداً.

حين قَبِل عبد الله حمدوك العودة إلى منصبه رئيساً للوزراء، بعد وساطات خارجية وداخلية، ووفقاً لتفاهمات مع المؤسسة العسكرية صيغت في وثيقة معلنة تتيح نوعاً من التهدئة وباباً للحوار السياسي العام وقدراً من السيطرة على التدهور الاقتصادي المتسارع، وبدأ الإفراج عن المعتقلين وتصحيح بعض، وليس بالضرورة كل، التعيينات الإدارية التي كانت قد صدرت قبل التوصل إلى هذا الاتفاق، وتأكيد المشاركة بين المؤسسات المدنية والعسكرية وفق أسس تقبل الأخذ والعطاء، وتشكيل حكومة غير حزبية، والتركيز على استكمال متطلبات السلام، ومواجهة التهديدات من الجوار الجنوبي… كانت طموحات الرجل أن يجد التأييد الشعبي المناسب لاستعادة التوازن السياسي أولاً، وإعادة تصحيح مسار المرحلة الانتقالية ثانياً، والاستعداد للانتخابات التي اتفق على إتمامها في منتصف عام 2023 ثالثاً، والأهم حقن الدماء السودانية، وهي الأغلى والأثمن.

لكنّ مواقف قوى الحرية والتغيير والتجمعات المهنية الرافضة للاتفاق، أدت عملياً إلى محاصرة حمدوك وإفقاده ظهيراً شعبياً تصور أنه سيعضده ويكمل معه الطريق الصعب، ووصل الأمر إلى عدِّه عقبة أمام الثورة ومناهضاً لأهدافها، ولا يمكن الوثوق به، حسبما ورد في أدبيات القوى الرافضة للاتفاق بينه وبين البرهان. وفي المحصلة فقد حمدوك أبرز عناصر قوته السياسية، وسيكون من الصعوبة بمكان أن يتحرك ممثلاً للثورة وطموحاتها، ما لم تعد القوى الرافضة عن مواقفها الصاخبة، وتمد أيديها مرة أخرى له، وتضع معه خريطة طريق قابلة للتنفيذ ومراعية للمصاعب الهائلة التي تحيط بالبلاد. ويُعد طرحه فكرة الاستقالة التي كررها أمام الكثير ممن حوله، تأكيداً لشعوره بصعوبة المهمة التي نَذَر نفسه من أجلها إذ ظل وحيداً بلا سند.
والسؤال: ماذا سيكون الوضع في حالة استقالة حمدوك، وخلوّ منصب رئيس الوزراء، وبالتالي فقدان وثيقة الاتفاق أهميتها وشرعيتها، والعودة إلى نقطة الصفر، في الوقت الذي تستمر فيه المصادمات الدامية بين المتظاهرين وبين قوات الأمن والجيش؟ النتيجة المباشرة لمثل هذا التطور، حال حدوثه، هو المزيد من عدم الاستقرار، والاتجاه إلى مواجهات أصعب قد تخرج عن السيطرة. وكما لاحظ مراقبون أن المظاهرات التي جرت في الأسابيع الأربعة الماضية كانت عفوية الطابع، تحركت فيها المجموعات بتأثير من دعوات اللجان الإلكترونية، وطُرحت فيها مطالب متعددة، بعضها تجاوز مطلب الحكم المدني الكامل، ودعوات لكراهية الجيش والشرطة.

ومع غياب القيادة الرمز ذات الشعبية القومية، تصبح البلاد قريبة من حال من التشظي السياسي والمجتمعي الذي يدفع ثمنه الجميع من دون استثناء، دولةً ومؤسسات وشعباً. وكل من يحب السودان ويؤمن بحقوق شعبه في الاستقرار والأمان والتنمية، عليه أن يحذر من هكذا احتمال خطير.
ومع حالة الاقتتال في دارفور ومشكلات شرق السودان، وتفاقم الأزمة الاقتصادية، والضحايا الذين يتساقطون في المظاهرات يوماً تلو آخر، والبيئة الإقليمية المُحملة بالصراعات العرقية، والتهديدات التي تمس وحدة السودان الإقليمية ومطامع جيران الجنوب في الأرض السودانية في الفشقة وغيرها، يصبح التخلي عن صيغة المباراة الصفرية ضرورة لا رجعة فيها، تتلوها تهدئة مرحلية، والبحث الجاد عن مسار تفاوضي يستند إلى التنازلات المتبادلة من كل الأطراف، والبحث عن نقاط الالتقاء، والتخلي عن المطالب المستحيلة أو شبه المستحيلة، وترشيد التحركات على الأرض بأنواعها وأشكالها المختلفة.. وغير ذلك هو الخطر بعينه.

المصدر
الشرق الأوسط
زر الذهاب إلى الأعلى