أخبار ليبياحياة

محمد الحداد يتحدث لـ218 عن انهيار الإسلام السياسي والعلاقة بين الدين والمجتمع

218| خلود الفلاح

الباحث التونسي محمد الحداد، حاصل على الدكتوراة في دراسات العالم العربي والإسلامي من جامعة السوربون في باريس وأستاذ التعليم العالي بالجامعات التونسية.

في هذا الحوار يتحدث الحداد لـــ 218 عن انهيار الإسلام السياسي في بلدان “الربيع العربي” وعن مفهوم الدولة العالقة، كما يشير إلى الدول الأكثر تضرراً من مشروع الإسلام السياسي وما الضرورة في إقامة علاقات جديدة بين الدين والمجتمع؟.

و”الحداد” أستاذ كرسي اليونسكو للدراسات المقارنة للأديان من 2004 إلى 2016، وخبير في شبكة اليونسكو العالمية لحوار الثقافات والأديان وعضو المجلس العلمي لمؤسسة “ريزيت دوك” لحوار الحضارات (إيطاليا- الولايات المتحدة) منذ 2012.

وللدكتور محمد الحداد عدة مؤلفات نذكر منها: الدولة العالقة: مأزق المواطنة والحكم المدني، والتنوير والثورة، وقواعد التنوير، وديانة الضمير الفردي، وفي آليات الاجتهاد الإصلاحي وحدوده، والإسلام في العصر الحديث: نزوات العنف واستراتيجيات الإصلاح، ومواقف من أجل التنوير، وقراءة في خطاب الإصلاح الديني: محمد عبده نموذجا، وحفريات تأويلية في الخطاب الإصلاحي العربي، الأفغاني ـ دراسة ووثائق.

ولديه منشورات بلغات أخرى (تأليف أو ترجمة): الإصلاحية الإسلامية: تاريخ نقدي (بالفرنسية ـ 2012)، وهل من مستقبل للإصلاح الديني في الإسلام؟ (بالإيطالية ـ 2011)، الإصلاحية الإسلامية (بالإنجليزية ـ 2018).

الحوار

ما رأيك في سيطرة المسألة الدينية على المفكرين خاصة العرب منذ القرن التاسع عشر وخلال هذه الحقبة ردد المفكرون هذه المسألة واعتبر بعضهم أن الإسلام هو الحل فيما ردد آخرون أن الدين أفيون الشعوب وآخرون أرادوا التوسط بين الاثنين، لكن جميعا تجمعهم طاولة واحدة، لماذا المسلمون دون غيرهم مثل الدين لهم المسألة؟ وهل تعتقد أن الآخر المستعمر له دور خاصة وما يثار حول علاقات المفكرين الأوائل بالماسونية أو الإدارة الاستعمارية؟

“الحداد” : هذه عدة أسئلة في سؤال واحد وسأحاول الإجابة عنها بالتفصيل، بالنسبة للمسألة الأولى، أي هيمنة الموضوع الديني في دنيا العرب، ينبغي أن نميّز بين الوضع في القرن التاسع عشر والوضع اليوم، ففي القرن التاسع عشر كان التعليم كلّه دينياً والثقافة دينية، فمن الطبيعي أن تطغى التعابير الدينية واللغة الدينية في كل شيء.

ومع القرن العشرين نشأ تعليم حديث ومدارس وجامعات لتدريس المعارف الحديثة مثل التاريخ والجغرافيا والرياضيات والفيزياء، لكن يبدو أنّ التعليم الحديث ظل سطحياً في مجتمعاتنا وينظر إليه على أنه مجرد وسيلة لتحصيل الشهادات والانتداب للعمل، وليس عملية تثقيفية لتغيير الرؤية للعالم وربطها بالمكتشفات والمخترعات الحديثة.

وفي القرن العشرين ظهرت أيضاً فنون المسرح والسينما وأدب القصة والرواية وفي الحقيقة إذا عدنا إلى فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين لم يكن الموضوع الديني هو الوحيد في اهتمامات العرب، كان لطه حسين ونجيب محفوظ وأم كلثوم حضور كبير، لكن الفن أيضاً لم يترسخ في الوعي الجماعي، مثل التعليم الحديث، لو أن محاضراً أتى ليحاضر في آخر الاكتشافات الطبية لما اهتم به أحد، وهناك العشرات من الباحثين يهاجرون إلى الخارج لأنهم لا يجدون اهتماماً بأبحاثهم في بلدانهم، إذن مشكلتنا هي أن التعليم الحديث والثقافة الحديثة لم يرسخا في مجتمعاتنا.

بالنسبة للمسألة الثانية، الصراع بين مقولتي الإسلام هو الحل والدين أفيون الشعوب علامة على طغيان الأيديولوجيا على الفكر، لأن المقولتين المشار إليهما مقولتان أيديولوجيتان.

الإسلام ليس حلا للمشاكل الاقتصادية مثلاً أو للمعادلات الرياضية التي أصبحت لغة الاقتصاد الحديث.
والدين ليس دائما أفيون الشعوب فقد يكون في حالات أخرى محرضاً لها على المقاومة أو على الإبداع.

أما بالنسبة إلى الماسونية فإن من الصحيح كون العديد من رواد النهضة قد انتموا إلى الحلقات الماسونية مثل الأفغاني وعبده والأمير عبد القادر، لكن الماسونية آنذاك كانت تنشر أفكاراً تنويرية وتدعو إلى الحوار بين الأديان وقد تغيرت الماسونية بعد ذلك.

أما الاختراق الاستعماري فلا يرتبط بالماسونية تحديدا، فمن المعلوم أن بريطانيا ظلت المساند القوي للإمبراطورية العثمانية حتى الحرب العالمية الأولى وأنها تدخلت عسكريا أكثر من مرة لحمايتها، كما أنها موّلت تأسيس جمعية الإخوان المسلمين في مصر كما اعترف بذلك حسن البنا نفسه في كتابه “مذكرات الدعوة والداعية” وقريبا منا، رأينا كيف شجعت إدارة الرئيس الأمريكي السابق أوباما عملية وصول الإخوان إلى الحكم في العديد من البلدان.

هناك من يعتقد أن المسألة الدينية بضاعة رائجة وبالتالي يمكن للجميع أن يتحدث في هذه المسألة وتقوم المعارك الصغرى والكبرى حولها وهذا ما يجعل المتلقين اليافعين يجدونها رائجة ومتوفرة فيغرفون منها دون كد ويحولون إلى خوارج.. كيف ترى المسألة؟

“الحداد”: هذا صحيح، أن تصبح مختصاً في الطب أو الفلسفة، هذا يطلب منك جهداً كبيراً وتكويناً يمتد على سنوات طوال، أما أن تصبح متحدثاً باسم الدين فهو أمر هين ومتيسر لكل شخص، ذلك أن العلوم الدينية التقليدية قد تراجعت وأصبح الدين عندنا مجرد خطب ومواعظ وإثارة للمشاعر وتجييش للجماهير.

الدين في السابق أفرز علوماً معقدة مثل علم الكلام وأصول الفقه، أما الخطاب الديني السائد اليوم فهو خطاب سياسوي سطحي يمكن لكل شخص مهما كان متواضع الثقافة أن يأتي بمثله.

طالعنا في الصحف والتلفزيون منذ زمن دعوات من مفكرين وقادة في الغرب إلى صراع حضاري فيه الإسلام العدو..هل تعتقد أن هذا ساهم في بروز الإسلام السياسي والصحوة الإسلامية خاصة مع الثورة الإيرانية التي عاد قائدها الخميني من باريس في طائرة خاصة؟

“الحداد” : في بداية عصر النهضة، آمن الرواد بحوار الأديان والحضارات سبيلاً لتجنب الصدام والحروب، لكن مع نشأة الإسلام السياسي في بداية القرن العشرين، تغير الموقف من الحوار إلى القطيعة، وبرزت النظرية الإخوانية لصدام الحضارات مع سيد قطب الذي وصف كل حضارة غير إسلامية بأنها جاهلية جديدة، والإسلام السياسي هو الذي غيّر طبيعة المواجهة مع الغرب من مواجهة بين استعمار وحركات تحرر وطني إلى مواجهة بين الكفر والإيمان.

وهذا بارز بوضوح في القضية الفلسطينية، فقد كان يُنظر إليها على أنها جزء من حركات التحرر العالمي ضد الاستعمار فجاءت “حماس” والثورة الإيرانية وحولاها إلى قضية إسلام ضد اليهودية وقد خسرت القضية بذلك تعاطف جزء كبير من الرأي العام العالمي.
طبعا الثورة الإيرانية التي مثلت أول نظام حكم يعتمد أيديولوجيا الإسلام السياسي كان لها دور بارز في هذا التحول ودفعت إلى قيام الكثير من الغربيين بدورهم إلى التنظير لصراع الحضارات والصراع ضد الإسلام تحديدا.

أما كيف وصل الخميني في طائرة خاصة من باريس إلى طهران فذلك الجزء غير المعلن من قصة الثورة، وهو مرتبط بالتأكيد بالصراعات على النفط، فقد كان الشاه في آخر عهده قد قرّر أن يسيطر بنفسه على إنتاج النفط الإيراني وتصديره بعدما كانت تقوم بذلك مؤسسات أجنبية، آنذاك فقط اكتشف الغرب أنه دكتاتور!.

البعض يكتب عن أن الربيع العربي محرقة مشروع الإسلام السياسي الذي ساهم في إنهاء المشروعين القومي والشيوعي، ما تعليقك على ما يحصل في تونس والمغرب من هزيمة للإسلام السياسي ومن عودة له في أفغانستان من خلال ما تم تسميته انتصار طالبان وهزيمة أمريكا؟

“الحداد”: الربيع العربي محرقة الإسلام السياسي لأن هذا الفصيل لم يسبق له أن تولّى الحكم قبل ذلك فظل على مدى عقود يقدم للجماهير وعوداً جذابة لكنها غير قابلة للتحقيق، وعندما أصبح في الحكم لم يقدر طبعاً على تطبيقها، وانتظرت منه الشعوب التنفيذ فلما يأست منه لفظته وتركته، ثم أن خبرة الإسلام السياسي في إدارة الدولة لا تبتعد كثيراً عن الصفر، من الطبيعي حينئذ أن ينهار الإسلام السياسي في كل بلد خاض فيه تجربة الحكم.

من المفارقة أن انهيار آخر حكومتين يسيطر عليهما الإسلام السياسي في تونس والمغرب قد تزامن مع تسليم أمريكا الحكم في أفغانستان لحركة طالبان المتطرفة، بعد أن كانت هي التي قررت دون موافقة أحد على شن حرب طويلة ضد طالبان.

وفي رأيي فإن هذا التزامن نذير فتح جبهة جديدة من العنف داخل العالم الإسلامي، ربما يأخذ هذه المرة شكل مواجهة بين الأصولية الشيعية الخمينية في إيران والأصولية السنية الطالبانية في أفغانستان، بما يترتب على ذلك من إنهاك كل المنطقة بالعنف والإرهاب وعدم الاستقرار.

إلى ماذا استندت في وصف المجتمعات العربية والإسلامية والفكر العربي بأنه يعيش أزمة؟

“الحداد”: الأزمة هي الحالة غير المستقرة لمجتمع معين، فالعديد من المجتمعات العربية والإسلامية يعيش أزمة بهذا المعنى، ومن آثارها مثلاً ما دعوته في كتابي الأخير بوضع “الدولة العالقة”، أي الدولة التي لا هي تقليدية ولا هي حديثة، لا دينية ولا مدنية.

بعد هزيمة تيار الإسلام السياسي في عدد من بلدان الربيع العربي، يعود هذا التيار ويعلن أنه ليس في حالة تراجع وإنما هو بصدد إصلاح أخطائه والتهيؤ لمرحلة جديدة.. ماذا تقول عن ذلك؟

“الحداد”: مفهوم المراجعات هو مفهوم “تكتيكي” يستعمل للمناورة لدى هذه الحركات وليس مفهوماً استراتيجياً يعبّر عن قناعة حقيقة بضرورة التغيير، تمّ الإعلان عن مراجعات كثيرة في السابق سرعان ما وقع التراجع عنها، القاعدة لدى حركات الإسلام السياسي واضحة هي: سلمية وودودة عندما تكون في وضع ضعف، ومتغطرسة وعنيفة عندما تشعر بأنها في حالة قوة.

تعرف مشروع الإسلام السياسي بأنه اللّادولة والفوضى الاجتماع، وحذرت في حوار سابق من تفتّت بعض الدول خلال الأعوام العشرة المقبلة.. ما هي معاييرك في ذلك؟ وما هي تلك الدول؟

“الحداد” : نشرت كتاب “الدولة العالقة” وهو دراسة علمية دقيقة لوضع الدولة في العديد من المجتمعات العربية والإسلامية، وقد بينت فيه بطريقة علمية كيف أن الإسلام السياسي ليس مشروع دولة، على عكس الاشتراكية التي كانت مشروع دولة بديلة عن الليبرالية، أو القومية التي كانت بديلاً عن الدولة الكوسموبوليتية، الإسلام السياسي ليس مشروع دولة بل مشروع نقض للدولة وتحويل المجتمع إلى فوضى.

أما الدول الأكثر تضررا فهي الدولة التي اعتمدت نظام الحكم الجمهوري، لأن الأنظمة الملكية احتفظت ضمن مشروعيتها بالدين، بينما تخلت عنه الجمهوريات فاستحوذ عليه الإسلام السياسي وجعله سلاحاً ضدها.

تطرح في كتاباتك مسألة الإصلاح الديني، فما المقصود بالإصلاح الديني في الواقع الاجتماعي العربي والإسلامي؟

“الحداد” : لا يمكن أن تنجح البلدان العربية والإسلامية في النهوض إلا إذا حققت مهمة الإصلاح الديني، ويعني إقامة علاقات جديدة بين الدين والمجتمع، الدين في السابق كان يقوم بوظائف كثيرة، لم يقم بوظيفة الحكم ولا يوجد في التاريخ الإسلامي أمثلة لرجال دين تولوا السلطة إلا استثناءات، لكنه كان يستعمل لتحديد شرعية الحكم، كان التعليم أيضاً دينياً بحتاً وكل مضامينه دينية.

كانت الخدمات الدينية تشمل الإعانات الاجتماعية للفقراء والمعوزين والنساء المطلقات والأرامل والأطفال فاقدي السند، كل هذه المهام أصبحت اليوم من صميم اختصاص الدولة، وظيفة الدين اليوم هي وظيفة أخلاقية وروحية، لكن بما أن الأخلاق والروحانية لم يعد لهما اعتبار في مجتمعاتنا فإن قولي هذا أصبح يثير الغضب والتكفير، فكأننا نستنقص من قيمة الدين عندما نربطه بالأخلاق والروحانية، مع أنّ هذه هي وظيفته الرئيسية التي غيّب عنها ليوجه إلى وظائف أخرى ليست من اختصاصه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى