اهم الاخباركتَـــــاب الموقع

محاولة رومانسية

عمر أبو القاسم الككلي

التقينا، في صدفة خير من موعد متفق عليه، في القطار الذاهب من صوفييا إلى بلغراد (أو بيوغراد، كما ينطقها أهلها) وكنت غرا1 في شؤون السفر وأول مرة أستقل قطارا. كنا في سنة 1988، بعد خروجي بأشهر قليلة من سجن دام أكثر من تسع سنوات، وكنت في سفرة عولت عليها كثيرا. إلا أن ما عولت عليه كثيرا  لم يتيسر بقدر ما كنت أتوقع (لكن هذا شأن آخر).

التقينا أمام إحدى دورات المياه بالقطار. كنا الاثنين فقط اللذين ينتظران. ولحسنا حظنا، الاثنين، لم يخرج شاغل الدورة سريعا. كان طبيعيا أن أبادرها. ويبدو أن لقاءنا وانتظارنا أمام دورة المياه جعل جسدينا محور تفكيرنا.

قالت أن اسمها ميريانا ملادينوفتش  Mirjana Mladenovic وكان لديها صديق عراقي أنجبت منه طفلة، عمرها الآن خمس سنوات، وتخلى عنها قبل مولد الطفلة، وأن أمها وأخاها وقفا معها في متاعبها. قالت أيضا أنها تحب العرب والمسلمين. الأمر الذي أعلى درجة توقعاتي.

أخبرتني (لاحقا) أنها، بسبب حبها للعرب والمسلمين، أسمت ابنتها أمينة Emina وأنها حين تُسأل عن سبب تسمية ابنتها باسم عربي وإسلامي، تجيب أن ذلك بسبب إعجابها الشديد بقصيدة الشاعر الصربي البوسني ألِكسا شانتتش2 الذي أحب فتاة مسلمة اسمها أمينة وكتب فيها قصيدة بنفس الاسم، نشرت سنة 1902 اشتهرت في الأدب الصربي وكذلك كأغنية.

ذكرت لها رقم المقصورة التي بها كرسيَّ، فجاءتني. جلست إلى جانبي وأخذنا نتحدث بما تيسر لدينا من الإنغليزية (وكان محصولي أوفر بكثير من محصولها. لذا لم أكن أخشى انكشاف أخطائي). أحسست أنها راغبة في أن أقبلها. فلم أتردد. تبادلنا القبل (أقل من تسع وتسعين قبلة)3. قالت:

You are very hot!

إنك ساخن جدا!.

لم أكن متأكدا من الحمولة الشهوانية للكلمة. فسألتها:

هل هذا شيء حسن، أم سيء؟!.

حسن!.

أجابت بنظرة امتداح وسرور.

سألتني: أين حقائبك؟!.

قلت: تركتها للشحن.

قالت أنها لا تعرف هذا الإجراء. وبما أنها مسافرة هي وطفلتها وأمها العجوز، فترجو مني أن أساعدهم في حمل حقائبهم. “فلم أكسل ولم أتبلَّدِ!”4. قالت أن أخاها كان يعمل في ليبيا مع شركة بناء يوغسلافية. وأنهم الآن يقيمون جميعا معا. قلت:

إذن لا أستطيع زيارتك في سكنكم!

لماذا؟!.

في محطة القطارات في بلغراد أخذت مني إيصال إيداع الحقائب، فاكتشفنا أنني وضعت حقيبتي في الأمانات وأنه لا وجود لإجراءات الشحن، وكنت، وأنا في محطة قطارات صوفيا أستغرب من “الأغبياء” الذين يتجشمون عناء حمل حقائبهم معهم بدلا من تركها للشحن!. عرضت عليَّ أن تعود هي إلى صوفيا وتأتي بحقيبتي، لأنها لا تحتاج إلى تأشيرة دخول وتعرف كيف تسافر بالقطار بأقل التكاليف. لكنني رفضت شاكرا. قالت أنت واقع في مشكلة وبإمكاني أن أساعدك. فلماذا ترفض مساعدتي؟!. لو كنت أنا واقعة في مشكلة وباستطاعتك مساعدتي، فهل ستحجم عن مساعدتي؟!.

وهكذا، دخلت بلغراد متخلصا من عبء الحقيبة (التي فيها ملابس لم أرتدها) وبملابسي التي على ظهري فقط.

*

تبادلنا أكثر من رسالة بعد عودتي، أخبرتني في إحداها أنها أحضرت الحقيبة. لكني انقطعت عن الرد عليها.

*

بعد فترة من دخول الانترنت فكرت أن أبحث عن اسمها في الفيسبوك. فلم أستطع تمييزها إن كانت موجودة بين العشرات اللائي وجدتهن بنفس الاسم.

*

خطر لي أن أبحث عن اسم ابنتها، لأن العثور عليه أسهل. فكتبت: Emina  Mladenovic وعثرت عليه. أرسلت إليها رسالة أسألها فيها إن كانت هي ابنة ميريانا. لكنها لم ترد.

*

ونحن خارجان من شقتهم الضيقة، كان أخوها جالسا في مقهى أمام البناية. كلمها وردت عليه. ثم قالت لي أنه اقترح عليها أخذي إلى المدينة القديمة!.

*

سألتها مرة ماذا تقرأ الآن. فقالت أنها تقرأ رواية لكاتب اسمه سلمان رشدي. شعرت بالخجل لأنني لا أعرف كاتبا (يبدو من اسمه أنه عربي ومهم إلى درجة ترجمة أعماله إلى الصربية). لكنها قالت لي أنه هندي مسلم (حب المسلمين مرة أخرى!) وانها تقرأ له رواية عنوانها “أطفال منتصف الليل).

قبل مغادرتي يوغسلافيا، اشتريت بضعة أعداد من مجلة لتعليم الإنغليزية بالصربي، بعض موادها مسجلة على شريط مصاحب. في إحداها وجدت مقابلة قصيرة مع سلمان رشدي، وبعد ذلك بأشهر، أصبح في الأخبار بعد روايته “آيات شيطانية”.

*

ذات مرة كنا جالسين في مقهى وجاءت طفلة تبيع الزهور. كان معها بضع زهرات. خطر لي أن أقوم بمبادرة رومانسية فاشتريت زهرة من الطفلة وقدمتها لها. رفضت أخذها. استغربت هذا منها. شكرتني وقالت في ما بعد أخبرك. أعدت الزهرة للطفلة ولم أستعد ثمنها. بعد أن ذهبت الطفلة قالت لي:

هذه أزهار يجمعونها من تلك التي توضع على القبور!.

وبذا فشلت محاولتي الرومانسية، ولم أحاول غيرها.

 

هوامش

1- وأنا أستعد للسفر قالت لي أمي: رد بالك على روحك، انتَ غشيم في البلادات.

2- Aleksa Šantić (1886- 1924)

3- من قصيدة “تعلق قلبي طفلة عربية” لأمريء القيس، تغنيها هيام يونس.

4- من معلقة طرفة بن العبد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى