مقالات مختارة

مجنون (النانا)

سليم الهمالي

فجأة تغير كل شيء في حياته، من يراه اليوم لا يصدق أن من أمامه هو ذلك الشاب الذي كانوا يعرفونه بِـ(الأنيق) .. المليء بالحياة، إذ تحول إلى شبح لإنسان بلا روح…

يمشي على غير هدى يجول الطرقات، بثيابه الرثة الممزقة، الملطخة بالزيوت والأوساخ، تفوح منها رائحة العرق وأشياء أخرى جعلت الناس تنفر من الاقتراب منه. شعر رأسه المنفوش في كل اتجاه، بعضه في “جلفات” كأنها التصقت بالصمغ، لحيته لم ترى تشذيبا ولا تهذيبا كحال شاربه الذي اختلط بلعابه، صرة تتدلى على كتفه، يضع فيها يده اليمنى باستمرار، كأنه يخفيها أو يكاد يخرج شيئا منها، فيها كل ما يحمله، يتنقل بها حيثما حل أو ارتحل.
الكبار يشفقون عليه، والصغار بعضهم يخافه وآخرون يلعبون معه …
هي هي ها هو جا .. هي هي ها هو جانا
هي هي يلعب معانا … هي هي مجنون النانا

لا يعرف له عنوان، ينام أينما حل ميعاد نومه، من (حفرة الذيب) حين يغيب عن الأنظار، إلى مكان في فناء أي بيت يعطف عليه، يعطونه ما تبقى عندهم من طعام، يأكله بنهم وبلا نسق معتاد، حتى يظن من يراه أنه أقرب لمعيشة حيوان الغابة منه إلى الإنسان.

(مجنون النانا)، هكذا ينادونه، لا أحد يعرف من أسماه، ربما الأطفال الذين يلعبون معه … عطوف معهم، يرونه بهلوانا اجتمعت فيه سمات السكون والنظرات الجامدة مع الحركات المفاجئة أحيانا، فأصبح تمثالا يتحلقون حوله .. يضحكهم بحركاته اغغغ .. اغغغ !

ما إن يعتاد عليه أهل المكان حتى يغيب عنهم، من مدينة إلى أخرى، قرية إلى أخرى، يتنقل بينها، ثم يعود إلى سابق دورانه، …يحدثون بعضهم: اليوم رأيت مجنون (النانا) في الطريق، داخل السوق، بين السواني يمشي على غير هدى.

في “تركينة” شارع الظل اتخذ مكانه ذلك اليوم، كوم مِن الأسمال وشبح كائن بشري وسطها، يمر الناس أمامه، لا يعبأ بهم وهم كذلك، يحيدون عنه قليلا، بعضهم أكثر مسافة ينظر إليه باشمئزاز … من كل المارة لم يتوقف أحد طوال صباح ذلك اليوم، الجوع ينهشه في صمت، نظراته الشاردة ترمقهم بلا اهتمام، حتى تلاقت عينيه مع أحدهم يخطو نحوه، اشتعل بريقها، اتسعت بما جعل الآتي يمعن النظر أكثر فأكثر ..
لا شيء في هيئته يوحي بشخصه الذي كان، سوى عينيه بذاك البريق والاتساع .. توقف الرجل، دقق النظر .. اقترب أكثر .. وعينا (النانا) تنفذ إلى كيانه … أيكون هو؟!… هل من المعقول أن يكون هذا أحمد؟!

بصوت خفيض همس: أحمد.. أحمد بابا!!

انفرجت عيون مجنون (النانا)، بزغ فيها بريق ودفق حياة لم يتذوقها لسنين … أنت فتحي بوغرارة

يا الله .. كل هذه السنين مرت، لم أسأل عنك، ما كنت أعرف أنك تعيش هنا، في شارع الظل، أين كنت، كيف تعيش، أين تسكن… سؤال تلو السؤال، مجنون (النانا) يسمع، لكن لا يجيب!

العلاقة التي جمعت فتحي بأحمد بابا لم يمحوها الزمان، رغم المدة التي انقضت على آخر لقاء بينهم، تلك (الليلة المشؤومة) كما يسميها فتحي!
طلاب في سنة خامسة كلية الطب، أحمد الأكثر ذكاء والمتفوق دائما في كل الامتحانات جاء لزيارة صديقه فتحي بغرفته، دخل عليهم وهم يلعبون “كارطة”، يتسلون بها من عناء أسبوع دراسي، كلهم أصدقاؤه، يعرفهم جيدًا ويعرفونه، حتى يمكن أن أقول إنه يقرأ ما يدور في رؤوسهم، خمسة أعوام تشاركوا فيها الأفراح والهموم والنقاشات التي لا تنتهي عن كل شيء، الطب، الوطن، الثورة، الدين، العالم، الفلسفة، التاريخ .. لم يتركوا شيئا لم يتجادلوا فيه …

فجأة انطفأ الضوء، تسمر أحمد في مكانه ينظر حوله في ظلام دامس، لا يرى شيئا منهم، تعالت أصواتهم يلعبون بمرح غامر …هات الكاوال، حط تريس ..
صاح فيهم: يا جماعة أنا لا أرى شيئا، ظلام دامس!
ردوا عليه بصوت واحد: لا يا راجل، عيب عليك الضي ما انقطع، نحن نرى كل شيء، كل شيءٍ بوضوح، أنت الأعمى الذي لا يرى شيئا.
يا جماعة، عيب عليكم أنا لا أرى شيئا، ظلام دامس، لا يمكن أن أكذب عليكم، الضوء انقطع!
استمروا في اللعب والضحك واللهو، كما اتفقوا، يضحكون من حالة التوتر التي تولدت عنده … أنت أعمى
ساعة لهو وضحك قلبت حياة أحمد بابا، أشعلوا الضوء لكن روح أحمد انطفأت إلى الأبد، منذ تلك الليلة تغيرت حياته، فارقه النوم، غاب عن المحاضرات والمعامل، لا يحلق ذقنه، يمشي بملابس النوم في القسم الداخلي وأحيانًا بالكلية … أحمد بابا فقد عقله!
قضى شهور بين العيادات النفسية والأدوية والإقامة في المستشفى، حالته تزداد فِي التعقيد، لا يهتم بنظافته، حديثه مكرر وممل، … لا يعرفون ما حدث له، وهو لا يعرف كيف تغير أصدقاؤه …

في المقاهي أكل بنهم جائع، فتحي يتألم لحال صديقه، … كلما تحدث أحمد يبدو كأن عقل العالم كله اليوم أصبح عنده، يتكلم بحكمة، جعلت فتحي يشك أنه هو المجنون .. قال له: أنت يا أحمد حالك ممتاز، الحمد لله، أمورك تمام التمام. لم يغب عن أحمد أي شيء من أيام الكلية، حتى المحاضرات استحضرها وكأنه يطالع شاشة مرئية، أحمد يتساءل: مستحيل يكون هذا مجنون، يعرف كل شيء، كلامه متناسق ومتزن.

انقضى الوقت بسرعة، التزامات فتحي فرضت عليه أن يطلب الاستئذان بالمغادرة، حينها مر أطفال صغار أمام المقهى، قبل أن يغادر تركه أحمد الذي انشغل مع الأطفال:
هي هي ها هو جا هي هي ها هو جانا
ارتبك فتحي، أهذا عاقل أم مجنون؟!

المصدر
صفحة شخصية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى