مقالات مختارة

ليبيا… سؤال الهوية وقلق البنية الاجتماعية

عبد الرحمن شلقم

المسكوت عنه، يبقى دائماً اللغم اللغز القابل للانفجار في زمن مجهول. التاريخ والجغرافيا جيولوجيا حية تتفاعل في تراكمها بلا توقف، وإن غفلها البشر. ليبيا البلد الذي يقع بين المشرق والمغرب العربي تكون في مسيرة تاريخية طويلة عبر حركة البشر في تطواف السنين، من الفينيقيين إلى الوندال والرومان والإغريق والعرب. الأمازيغ كانوا بذرة الوجود الأولى. مع الموجات البشرية كانت الشحنات الدينية الحادي الفاعل في حركة الناس فوق الأرض وفي امتدادات الزمن. سياسياً لم تكن الكيانات مصبوبة في بوتقة ما عرف فيما بعد بالدولة. الأرض والبشر تتقاذفهما القوة العابرة للأرض والناس، وكانت ليبيا عبر العصور الممر الذي سارت فوقه القوة والأعراق وجيوش الفتوحات شرقاً وغرباً. الطبيعة تصمم جيولوجيا الأوطان والبشر. بلاد واسعة بلا أنهار لا تزورها الأمطار إلا لماماً. كل ما حولها من أقطار الجوار أكثر منها كثافة سكانية، أرض طاردة يهاجر منها الناس ولا يمرون بها إلا عابرين. ومن يستقر به المقام فيها يتجمع في بقع منفصلة وغير متصلة اجتماعياً في نشاط الحياة اليومية إلا في دورات مواسم الأمطار وحركة الرعي والتجارة المحدودة.
القبيلة كانت الإطار الاجتماعي الذي ولد من رحم الجغرافيا ومخاض التاريخ. «المشترك» يتسع ويضيق بين التواصل والتعاون والصدام. «الوطن» التكوين الذي تخلّق في المجتمعات النهرية لم يعطه الناس عنواناً، وإن قام على الأرض وتحرك في وجدان الناس القاطنين فوقها. الإمبراطوريات النظام الذي حكم الدنيا قروناً لم يعرف خطوط الحدود، القوة هي الشريعة التي تعلي الحاكم وتقود المحكوم، لا حدود ولا أوطان، بل لا شعوب لها اسم أو هوية. كائنات تتحرك تخضع لعواصم بعيدة. هكذا كانت ليبيا ومعها كثير من مساحات الأرض. كلمات لا بد منها قبل أن نقترب من صفحة الزمن القريب، علّها تساعدنا على قراءة أوراق كتاب الزمن الذي نعيشه.
بعد الاستقلال كان الهم الضاغط على من تقدموا قيادة مسيرة البلاد هو تدبير سبل الحياة للناس، حيث كانت ليبيا من أفقر بلدان العالم. عبرت سنوات من الحروب والمعاناة في مواجهة الاستعمار الفاشي البشع. هاجر كثير من السكان شرقاً وغرباً. الإدارة الحكومية بكل مستوياتها كان هاجسها تحقيق قدر مما يسد الرمق ويوفر التعليم والعلاج للأمراض المتوطنة. غاب كثير من الأسئلة الأساسية التي تحقق قيام المجتمع الجديد على أسس حديثة وعلى رأسها «الهوية» الجامعة لأبناء الوطن. في وسط خمسينات القرن الماضي، أي بُعيدَ الاستقلال، هبت موجتان على ليبيا التي لم تُطرح بها مسألة الهوية الوطنية. الموجة الأولى من الشرق، من مصر، الرئيس جمال عبد الناصر الذي رفع شعار القومية العربية، وهي هوية عابرة للحدود، ومن الغرب الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة الذي قاد حملات إعلامية، مثَّل هو شخصياً خطيبها وإمامها المفوه، محورها الهوية الوطنية التونسية. مشروع الحداثة المرتكز على اقتلاع العقلية القبلية التي كانت تسمى في تونس «العروش» وتكريس النمط الغربي وتعليم اللغة الفرنسية إلى جانب العربية. رغم الاختلاف البين والكبير بين الاثنين، جمال عبد الناصر والحبيب بورقيبة، فإنهما اشتركا في صفة الزعيم التي تُقدم الحاكم العربي الجديد لمرحلة دولة الاستقلال. في ليبيا الملكية غاب الخطاب الزعامي مع دخول جهاز الراديو الذي خلق عقلية «الأذن» الصانعة لبدايات الرأي العام الشعبي. الملك إدريس السنوسي الفقيه الزاهد في الكلام والسلطة، لم يخلق لغة تواصل مباشر مع الشعب، بل اعتزل جزئياً الحياة السياسة واكتفى بدور الأب الوطني الناصح والواعظ. رؤساء الحكومات كانت غالبيتهم من الرعيل الذي ساهم في تأسيس دولة الاستقلال، لم تكن لهم صلاحية الحديث مباشرة إلى الناس، ولم تكن لهم قدرات تؤهل أغلبهم لذلك. بقيت ليبيا بين مطرقة عبد الناصر القومية العابرة للحدود، وسندان بورقيبة المتحصن بلغة التحديث الوطني داخل الحدود التونسية. أحس بعض رموز النخبة الليبية في دواليب الإدارة بقوة الموجتين الشرقية والغربية، لكن صوت جمال عبد الناصر كان أقوى إيقاعاً في أذن العامة بل النخب الليبية. عندما شرعت الإذاعة الليبية المسموعة تبث برامجها في وسط خمسينات القرن الماضي، قرر القائمون عليها أن ترسل البرامج إلى فرع الراديو ببنغازي، ليتم البث في ذات الوقت تعبيراً عن وحدة تلك الوسيلة الوطنية الجديدة.
عندما انطلقت الجامعة الليبية تقرر أن تكون الكليات العلمية بطرابلس، والنظرية ببنغازي. كان ذلك القرار مدروساً بعقل سياسي وطني، الهدف منه تحقيق الاندماج بين الجيل الجديد، وبالفعل امتزجت الأفكار مع تواصل اجتماعي عبر الزواج العابر للمناطق والمدن والقرى في البلاد. اقترح أحد المسؤولين تأسيس كلية للآداب بطرابلس وأخرى للعلوم ببنغازي تسهيلاً على الفتيات. تم رفض ذلك بشدة. وعندما أراد ولي العهد الحسن الرضا السنوسي الزواج، كان قراره أن يقترن بفتاة من أعرق عائلات مدينة طرابلس، وشهدت حركة المصاهرة بين جيل المسؤولين من الأقاليم الثلاثة، وكذلك الشباب العاديون، امتدادات غير مسبوقة.
أجمع القائمون على قيادة البلاد أن التعليم هو الجسر الذي تعبر فوقه ليبيا إلى التنمية والتحديث والتقدم، اندفعوا نحو جلب كبار الأساتذة العلماء من كل البلاد العربية وفي مختلف العلوم إلى الكليات الليبية، وعندما سئل الدكتور طه حسين، ما هي أحسن الجامعات العربية؟ قال هي جامعة بنغازي. كانت الإدارة الرئيسية للجامعة الليبية آنئذ ببنغازي. تسابق المسؤولون إلى جلب كبار العلماء كما يتسابق اليوم أصحاب الأندية الكبيرة في العالم على شراء اللاعبين البارزين. ذهب أحد رؤساء الوزارات الليبيين إلى القاهرة حاملا رسالة من الملك إدريس إلى الرئيس جمال عبد الناصر تتضمن قائمة من الأساتذة المصريين تطلب ليبيا إعارتهم لجامعتها، عندما أحال عبد الناصر الرسالة لوزير التعليم المصري للتنفيذ، ردَّ عليه الوزير أن ذلك يعني إفراغ جامعاتنا من عقولها. كان التعليم هو الهاجس الأول لجيل الاستقلال، وعندما قال الرائد عبد السلام جلود لمحمود المنتصر، وهو في المعتقل: «أنت من وقّعت اتفاقية القواعد العسكرية مع بريطانيا وأميركا عندما كنت رئيساً للوزراء». ردَّ المنتصر: «نعم صرفت أجرة القواعد على التعليم».
لا أقصد هنا الدفاع عن مواقف سياسية سابقة، لكنني كما قلت أقرأ أوراقاً طُويت، لكن أثرها لا يزال كامناً في تجاويف وطبقات جيولوجيا الكيان الاجتماعي والثقافي بل السياسي الليبي.
«الهوية الوطنية» بقيت السؤال «اللغم» المسكوت عنه. كان الصوت القومي العربي هو الذي يعلو على ما عداه، و«الوحدة العربية» هما الكلمتان اللتان لا تفسحان مكاناً للسان أو لأذن في شارع عام، يرافقهما «صوت العرب» المنطلق من القاهرة.
وبعد سبتمبر (أيلول) 1969، أضيفت أصوات تنطلق من ليبيا أكثر ارتفاعاً تدعو لعقيدة الوحدة العربية. وبعد فبراير (شباط) 2011، اكتشف الجميع أن الليبيين يتحركون فوق قشرة رقيقة من الافتراض، تتفاعل تحتها بقع من التكوينات نصف النائمة، جهوية وقبلية وآيديولوجية. ارتفع الغطاء عن القدر الكاتم «اللغم» المسكوت عنه… الهوية… وانفجر من داخله السؤال بصوت الدم والرصاص والفردية المغالبة.
عبد الحميد البكوش، المحامي والأديب والشاعر من الجيل الليبي الأول الذي تخرج من جامعة القاهرة، وتولى رئاسة الوزارة وهو شاب، حاول أن يطرح موضوع الهوية تحت عنوان «الشخصية الليبية»، بلغة فيها أنفاس العاطفة وضوابط الحذر. انطلقت ضده عاصفة من المعارضة العنيفة، ووجّهت له تهمة الإقليمية، بل الخيانة. وغاب صوت السؤال. وبقي لغم المسكوت عنه… الهوية… أختم بالقول إنني كنت من الشباب الذين شاركوا في الحملة ضد ما طرحه عبد الحميد البكوش آنذاك.

المصدر
الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى