مقالات مختارة

لماذا يعلو ضجيج السلام في جنوب السودان

صخب السلام الذي تسارعت وتيرته مؤخرا، يرمي إلى استباق أي خطوات مقبلة بشأن تشديد العقوبات على جوبا، ويحاول معالجة أوجه العجز الفاضح عن تسوية أزمة يمكن أن تتكرر في مناطق مجاورة.

محمد أبو الفضل

العقبات التي واجهتها التسوية السياسية للحرب الأهلية في جنوب السودان، خلفت وراءها الكثير من الإحباطات، وجعلت دوائر كثيرة تفقد حماسها وتنصرف أحيانا عن متابعة التحركات للوصول إلى السلام، وتركت الدولة الوليدة لمصيرها الغامض.

فجأة بدأت تطفو على السطح محاولات جديدة لاستئناف الجهود في بلد يعيش حربا طاحنة منذ حوالي خمس سنوات، واستضافت إثيوبيا لقاء نادرا أخيرا، بين سيلفا كير رئيس جنوب السودان ونائبه السابق رياك مشار.

المياه السياسية التي حركتها منظمة “إيجاد” سعيا وراء السلام، والجهود التي بذلها آبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا، لجمع كير ومشار وجها لوجه في أديس أبابا، الأربعاء الماضي، أخفقت في تقريب المسافات بينهما. وأكدت نتائج المحادثات تشبث كل طرف بموقفه الرافض للآخر، وأن فرص تطبيق اتفاق السلام الموقع بينهما في أغسطس 2015 تكاد تكون مستحيلة.

دخول السودان على خط الوساطة حاليا، والإعلان عن استضافة الخرطوم لقاء بين كير ومشار قريبا، جاء كمحاولة أخرى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لأن الولايات المتحدة طالبت بضرورة التوصل لتسوية في هذا البلد قبل 30 يونيو الحالي، وحذرت من فرض عقوبات على ستة من كبار المسؤولين في جوبا.

الصراع يدور بين طرفين من الصعوبة أن يجتمعا مرة أخرى في إدارة حاكمة واحدة. كما أن فكرة إقصاء أحدهما عن المشهد، باعتبارها حلا مناسبا، بالغة الصعوبة

هذه التحركات جاءت عقب صدور قرار من مجلس الأمن الدولي باستئناف تمديد بعض العقوبات على جنوب السودان لمدة 45 يوما (تنتهي منتصف يوليو المقبل) ينذر أن هناك مرحلة قاسية تنتظر النظام الحاكم في جوبا والمتمردين، ما لم يتم التوصل لسلام دائم.

الجهود السياسية الحثيثة التي تبذلها دول قريبة من جنوب السودان، تؤكد أن رسائل الولايات المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وصلت إليهم بوضوح، وثمة عزيمة للتعامل بجدية أكبر مع الحرب الأهلية في جنوب السودان، قبل أن تتعرض لمزيد من التدخلات الدولية، التي سوف تنعكس تأثيراتها السلبية على الفضاء المحيط بها.

صخب السلام الذي تسارعت وتيرته مؤخرا، يرمي إلى استباق أي خطوات مقبلة بشأن تشديد العقوبات على جوبا، ويحاول معالجة أوجه العجز الفاضح عن تسوية أزمة يمكن أن تتكرر في مناطق مجاورة، لأن الدول التي كشرت عن أنيابها، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، تشعر بالخزي والفشل في إنقاذ بلد لعبت دورا مهما في سلخه عن السودان، وأوحت منذ حصوله على الاستقلال عام 2011 أنه سوف يكون واحة للديمقراطية والحريات والعدالة ونموذجا تحتذي به القارة الأفريقية في النماء والرخاء.

التوقعات والتكهنات الإيجابية تكسرت سريعا على أنصال نشوب الحرب، وتصاعد أزمة المهجرين والمشردين والبؤساء والوفيات في جنوب السودان، جراء العجز عن وقف حرب فضحت مواقف بعض القوى الدولية والإقليمية، التي لم تكتف بالتقاعس عن نجدته، بل انحازت لأحد طرفي الصراع بصورة مددت عمر الحرب الأهلية.

التباكي على كثرة الضحايا والسلام المفقود واتساع نطاق التدخلات جريا وراء التسوية والضغط على طرفي النزاع، كلها ملامح تسعى إلى قطع الطريق على مواجهة تحدي العقوبات، التي لم تظهر حكومة جوبا اكتراثا بها، لأنها تدرك حجم الصعوبات التي تقف حائلا أمام نجاحها بدقة، ما يحرج الدول التي تقف خلفها.

الواضح أن القوى الدولية التي تدعم تفعيل سلاح العقوبات هي ذاتها التي تحض قوى إقليمية على استئناف جهود التسوية، وإقناع كير ومشار على عقد لقاءات متتالية، فإذا لم تحرز تقدما لافتا توحي، على الأقل، باستمرار العملية السياسية، الأمر الذي يخفف الضغوط الإنسانية الواقعة على كاهلها.

الطريقة التي تدار بها المحادثات تشير إلى أنها لن تتمكن من فك عقدة الأزمة بين الغريمين، كير ومشار. اللقاء المنتظر الذي عُقد بينهما في الخرطوم، لن تختلف نتائجه عن نظيره الذي عُقد في أديس أبابا الأسبوع الماضي، لأن أدبيات الحوار لم تتغير وأنماط التعامل مع الأزمة لم تتبدل، ما يجعل الاجتماعات منتديات كلامية أو محاولات لإبراء الذمة السياسية.

السلام في حالة الأزمات المستعصية يحتاج قوة تفرضه وتحميه، لا إلى دول تسعى من وراء الدخول على خطوطها إلى تحقيق مكاسب سياسية. منظمة الإيجاد بكاملها لم تستطع تحريك المياه الراكدة. إثيوبيا اقتربت وفشلت. خطة مصر وأوغندا لتقريب وجهات النظر بين عناصر من القوى المتصارعة غابت عنها قوى رئيسية، وجاءت لإثبات الوجود والمناكفة أكثر منها رغبة في التسوية، لأن الحل الثابت له نواميس وطقوس لم تتوافر بعد.

المياه السياسية التي حركتها منظمة “إيجاد” سعيا وراء السلام، والجهود التي بذلها آبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا، لجمع كير ومشار وجها لوجه في أديس أبابا، الأربعاء الماضي، أخفقت في تقريب المسافات بينهما

إعلان الخرطوم استضافة لقاء كير ومشار، يفتقد للمنطق السياسي، لأن السودان نفسه بحاجة لمن يطفئ نيرانه المسلحة في الجنوب والغرب والشرق، ودخل الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني) سلسلة من المحادثات لتجسير الهوة مع معارضيه السياسيين والمسلحين، وجميعها واجهت فشلا ذريعا. كما أن الخرطوم تتحمل جانبا من المعاناة، بسبب مناكفاتها المتعددة مع جنوب السودان، ودعمها لطرف على حساب آخر، مرة مشار وأخرى سيلفا كير.

المجتمع الدولي يتعامل مع الحرب في جنوب السودان بقليل من التعقل والاهتمام، لأن تداعياتها لم تمتد لمصالح القوى الفاعلة فيه. النفط، وهو السلعة الحيوية التي تمتلك منه جوبا كميات وفيرة، يتم استخراجه وتصديره بانتظام. هناك شركات متعددة الجنسيات كانت تمارس نشاطها في أشد المناطق وعورة، التي تنخرط في الحرب الأهلية وتحولت لساحة لمعارك متقطعة، لكنها لا تزال بعيدة عن حقول النفط الرئيسية.

المشكلة أن الحرب لم تؤثر على مصالح دولة مثل الصين، وربما زادتها قوة ونفوذا في ظل تجاهل الولايات المتحدة لديناميكيات الصراع في جنوب السودان، والخوف من الانخراط مباشرة في الحرب، لأنه يلحق بسمعتها أضرارا خطيرة. وقد تعرف كيف ولماذا تدخل، دون امتلاك خارطة للخروج، ولن تنسى مشهد سحل عدد من جنودها في الصومال في عملية “استعادة الأمل” عام 1993، والتي تركت في عقل قيادتها العسكرية ذكريات أليمة.

من هنا يأتي الزج بقوى مختلفة خلف السلام الصعب في جنوب السودان، والذي يتطلب موقفا دوليا صارما، وخطة أممية واضحة المعالم، وتوقيتات محددة، وفرض عقوبات على جميع من ساهموا في اندلاع الحرب بسياساتهم الخاطئة وتدخلاتهم الخرقاء، أو من صمتوا وهم يعلمون أن هناك محركين لها من أمام وخلف الستار.

التعويل على دول إقليمية، مثل إثيوبيا وكينيا والسودان وأوغندا، وهي دول منخرطة في الأزمة بصور مختلفة، كفيل باستمرارها سنوات طويلة، وهو ما يعرفه جيدا طرفا الصراع. فكل منهما يراهن على توظيف توازن الضعف الحالي، ويستفيد من التناقضات التي تكتنف مواقف قوى إقليمية ودولية عديدة.

الحاصل أن الصراع يدور بين طرفين من الصعوبة أن يجتمعا مرة أخرى في إدارة حاكمة واحدة. كما أن فكرة إقصاء أحدهما عن المشهد، باعتبارها حلا مناسبا، بالغة الصعوبة. ففي ظل الحروب الأهلية التي لها روافد قبلية يصبح هذا النوع من الخيارات مميتا للقبيلة وليس للقائد المطلوب التضحية به.

لذلك سوف يعلو ضجيج السلام في عواصم مختلفة خلال الفترة المقبلة من دون رؤية طحين له على الأرض، ما لم تلتفت بعض القـوى الدولية الغارقة في أزمات أخرى أشد سخونة، إلى جنوب السودان باعتباره بوابة للأمن والاستقرار في شرق أفريقيا.

المصدر
العرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى