كتَـــــاب الموقع

لا تكونوا أحفادًا بؤساءً لأولئك الأجداد العظماء

سالم العوكلي

حين طُرح قانون العزل السياسي للإقرار في المؤتمر الوطني، رأيت أحد المنتخبين من درنة عن قائمة حزب البناء والعدالة الممثل لجماعة الإخوان وهو يهدر بقوة مطالبًا بإنفاذ القانون، بل وانتقد وفدًا من المثقفين المشاركين وقتها في معرض كتاب القاهرة بكونهم كانوا يكتبون ويبدعون فترة النظام السابق.

ولأن هذا المتحمس للإقصاء والعزل الشامل كان من المترددين على أنشطة بيت درنة الثقافي ومن الناقدين لنهج النظام السابق الإقصائي، ولأن جده وقع على ميثاق الحرابي وأعيان درنة التصالحي والتسامحي؛ فقد بعثت له رسالة عبر الجوال ما زلت احتفظ بنصّها “جدك وقع على ميثاق الحرابي وأعيان درنة للمصالحة والتسامح، وأنت توقع على قانون العزل السياسي. كم نحن أحفاد بؤساء لأولئك الأجداد العظماء”. لم يرد علي بعدها ولم يتواصل معي أبدًا.

يحيلني هذا إلى البيان الأخير الذي وقع عليه أكاديميون وكتاب وفنانون ونشطاء مدنيون، ليبيات وليبيون، والذي يدعو أعضاء وأطراف الحوار في تونس للاقتداء بهؤلاء الآباء والأجداد المؤسسين للدولة الوطنية الليبية الأولى في تاريخنا.

وبعض المعلقين على البيان، من الشبان خصوصا، استفسروا بسؤال: من هم الآباء المؤسسون؟ ولا أستغرب هذا السؤال لأن النظام السابق عمل بمثابرة على تجريف تاريخ ليبيا السياسي، وضمّن مناهج التعليم بما يؤكد أن كل شيء في ليبيا بدأ مع حركة أول سبتمبر، ووضع أولئك المؤسسين في خانة الخيانة والرجعية.

أما العضو الذي تحدثت عنه فإنه يعرف جيدا هؤلاء الآباء وتاريخهم المشرف، ولكن الأيديولوجيا التي انتمى لها لا تختلف عن أيديولوجيا النظام السابق: فهي مثله إقصائية، ومثله لا تعترف بفكرة الوطن أو الكيان الليبي ما بالك بتاريخه النضالي السياسي، هو سمى نفسه القائد الأممي وجعل من ليبيا منصة ومصرفا ممولا لكل ما سماهم “حركات تحرر أممي”، ورفع شعاره المُخدر “القرآن شريعة المجتمع، وعدل الكثير من القوانين والتشريعات وفق هذا الشعار، حتى أنه أدخل عقوبة الجلد في قانون العقوبات، وهم ثبتوا هذا الشعار الدعائي في مواد محصنة في دستور من المفترض أن يكون عقدًا للأجيال القادمة.

أنا لست ضدهم كمواطنين ليبيين لهم تصوراتهم، لكن من الأساس ضد فكرة تسييس الدين واستخدامه للوصول إلى السلطة، كما كانت أغلبية الليبيين ضدهم حين فشلوا في الانتخابات ثلاث مرات، والسبب أن الليبيين متدينين بطبعهم، ويستفزهم أي خطاب يزايد عليهم في الدين كما فعل النظام السابق، فالليبيون في حاجة إلى برنامج حقيقي يحلّ مشاكلهم ويعدهم بدولة حديثة يتفاخرون بها في هذا العالم، وفي حاجة إلى تنمية ورفاه وحقوق وضمانات دستورية تحفظ هذه الحقوق بعدما تعرضوا له طيلة عقود من إجراءات عشوائية لا تضبطها قوانين ولا دستور تراوحت بين السجن والإعدام وتبرؤ الأسر من أبنائها حين يخالفون النظام الرأي.

أنا ضدهم لأن جوهر مشروع الدين السياسي، متى وأينما كان، فاشي، ولأن استخدام الدين في السياسة ملأ التاريخ بالعنف والإقصاء والمجازر والكراهية. لهذا السبب كتبت مرارا عن ضرورة أن يحتوي الدستور وقانون الأحزاب بندا يحظر الأحزاب ذات المنشأ الديني، حفاظًا على الدين من أن تحتكره مجموعة وتحوله إلى سلعة سياسية وأداة للوصول إلى السلطة، وحفاظًا على السياسة من أن تكون مجالاً لتقديس البرامج والأشخاص، وتقديم ضروب الطاعة، وتكريس الرعية الورعة بدل حق المواطنة الفاعلة.

أما عن الآباء المؤسسين؛ فليبيا تعود الآن إلى فترة شبيهة بفترة ما بعد انهيار الفاشية الأولى المتمثلة في الحزب الفاشي الإيطالي الذي كان يحكم ليبيا ورغبة القوى الوطنية في الاستقلال أثناء الوصاية البريطانية، حيث تكالبت القوى الكبرى مثلما تتكالب الآن على هذا الجزء من العالم، وفق مشروع تقسيم ليبيا إلى ثلاثة أقاليم وكل إقليم تحت وصاية دولة أوربية، وحيث أشاعت تلك القوى وغيرها أن ليبيا لا مقومات للدولة فيها وليست جاهزة للاستقلال، لكن الآباء المؤسسين رموا كل الخلافات جانبا وقدموا التنازلات بعضهم لبعض، وشكّلوا لجنة وطنية ذهبت إلى الأمم المتحدة لترجع بقرار الاستقلال رغما عن كل هذه القوى، وشرعوا في بناء الدولة الوطنية في أصعب الظروف.

في ذلك الوقت، كانت الأمية في ليبيا تتجاوز التسعين في المائة، لا وسائل إعلام ولا حتى هواتف في البيوت، ولا طرقا تربط بين كل مدنها وقراها، لكن النخب الوطنية استطاعت أن تؤسّس للدولة التي شكّك فيها الجميع، واستطاعت أن تفرض إرادتها وهي في ذروة انفتاحها وحوارها مع مصالح تلك القوى التي يجب إدارتها بما ينفع الوطن وليس مناصبتها العداء.

كل هذا حاولنا أن نذكّر به أطراف الحوار وأعضائه، وسنظل نُذكِّر بهذه التجربة الملهمة في تاريخنا التي صنعتها النخب بكل أنواعها: السياسية والثقافية والاجتماعية والروحية، بعد أن ارسوا مصالحة وطنية واجتماعية شاملة، وأجلوا العدالة الانتقالية إلى أن تتشكل مؤسسات الدولة العدلية . لم يحرروا قانون عزل سياسي، ولم ينشئوا هيأة لمعايير النزاهة والوطنية. بل حرروا دستورًا تعايشيًا بين كل مكونات المجتمع بما فيهم المواطنون المسيحيون واليهود الذين كانوا يعيشون في ليبيا تحت حماية المادة التي تحمي حرية الاعتقاد.

ومثلما بعثت رسالتي إلى عضو المؤتمر الوطني الذي أصبح عضوا لمجلس الدولة في تشبث غريب بالسلطة طالما احتقره حين كان يناقش في أنشطة بيت درنة الثقافي، أبعث برسالة إلى كل أطراف الحوار الذين من الواضح مازال التوافق يعني لهم تقسيم الغنائم والمناصب واستمرار الحصانة (لا تكونوا أحفادا وأبناء بؤساء لأولئك الآباء والأجداد العظام) الذي بإرادتهم انتزعوا مشروع بناء الدولة الليبية من بين أنياب القوى الكبرى المتكالبة على تقطيع ليبيا في ذلك الزمن الذي يشبه هذا الوقت.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى