اهم الاخباركتَـــــاب الموقع

قوقعتهم وقوقعتنا

فرج عبدالسلام

بطبيعتي، وأزعمُ أنَّ كثيرين يشاطرونني رؤيتي، أتجنّبُ رؤية أفلام العنف والرعب لما تحتويه من مشاهد مروّعة، تمجّها النفس الإنسانية، وعليه أنصحُ أصحابَ القلوب الضعيفة، والنفوس الشفيفة، ألا يقرؤوا هذا الكتاب الصادم.. لأنّه، سيجعل القارئ “السويّ” يشكّكُ في كل الثوابت المتعارف عليها، من مبادئ وقيم، وصولا إلى جدوى الحياة نفسها، وأحذّرُ كذلك من حالة الاكتئاب التي لا بد أن تصاحب القارئ، والصدمة لمّا يمكن أن تصل إليه البشريّة من ساديّة في الإذلال، وكلّ أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، والقتل الوحشي.

ابتدأ الأمرُ خلال لقائي الأول، الذي ترقّبتُه بشوق، مع واحدٍ من أهم أيقونات النضال الليبيّ الحديث ضد الهمجية والاستبداد. فلطالما أعجِبتُ بشخصية الضابط السجين “عبد الونيس محمود”، وسيرة نضاله، ومثابرته على تعرية الاستبداد ومقاومته، وكذلك ثمّنتُ سعة اطلاعه، وثقافته التي هي بحكم تجربتي الطويلة في المؤسسة، تكاد تكون من الأمور النادرة في أوساط المؤسسة العسكرية في العموم، والليبيّة على وجه الخصوص.

دار خلال الجلسة نقاشٌ معمّق ومهم، حول تجربة “عبد الونيس” السجنيّة، خاصّة أنَّ اللقاء ضمّ رفيقَي محنة، هما الكاتب والروائي والسجين المخضرم السابق “منصور بوشناف”، إلى جانب الأديب الحقوقي “جمعة عتيقة”، الذي خاض تجربة مريرة متكررة مع سجون نظام سبتمبر، كانت ذروتها وجوده في وسط السجناء، أثناء تنفيذ مذبحة سجن بوسليم الشهيرة، التي نجا منها بأعجوبة، وإن كانت تجربة “عبد الونيس” مختلفة نوعاً ما، لقضائه إحدى عشرة سنة في “الحبس الانفرادي” يُسامُ سوءَ العذاب بطرق شتى، في انتظار اللحظة التي سيقررون فيها تنفيذ حكم إعدام جائر بحقه. الخلاصة أنّ السجناء السابقين، بخبرتهم السجنيّة المكثفة، وثقافتهم العالية، تطرّقوا إلى الحديث عمّا يُسمى “أدب السجون”، من خلال ما دوّنه الضابط السجين، عبد الونيس محمود، في مذكّراته المؤلمة عن تلك الفترة، في سلسلة مقالات جمعها في كتاب حول “سجن الحصان الأسود”. لتنضمّ هذه الوثيقة إلى عديد المطبوعات عن أدب السجون التي أصدرها ليبيون، أذكر منهم على سبيل المثال عمر الككلي، وعبد العظيم البشتي.

رأى الحاضرون العليمون ببواطن أمورِ السجون ،وتفاصيل ما يجري فيها، أنّ أهمّ ما كُتب بالعربية حول هذا الموضوع، وأكثرها قسوة في استحضار التجربة، هو كتاب “القوقعة: يوميات متلصص” للسوري مصطفى خليفة، الذي انطلق من تجربة شخصية مريرة، بعد أن اعتُقل فورَعودته لسوريا دون أن يعرف لماذا. ليتضح لاحقًا أنّ اعتقاله كان لتهمة مختلقة، وهي الانتماء للإخوان المسلمين، على الرغم من أنّه مسيحيّ! ثم ليُقاد إلى سجن تدمر سيئ السمعة، حيث نجا من الموت في السجن أكثر من مرّة. و”القوقعة” رمزيةٌ مؤلمة لما عاناه من نبذ رفاقه السجناء الإسلاميين له، ورفض التعامل، أو حتى الحديث معه مطلقا، طوال ثلاثة عشر عاما جاورهم خلالها في العنبر نفسه، لأنّه مسيحيّ! إذْ رأى أنّ هذا العقاب هو أسوأ أنواع التعذيب، وكان يلجأ مضطرا إلى الدخول إلى قوقعته، مراقبا الإعدامات وعمليّات التعذيب الوحشي، ليخزّنها في ذاكرته.

كان مصطفى خليفة، شاهدا حيّا على موت الإنسانيّة بأبشع الصور المُتخيلة، فحتى الإعدامات لم تكن سريعة، بل يتعيّن أن تمرّ قبل تنفيذها بعمليّات تعذيب، تفوق قسوتها الخيال البشريّ، كي يصل السجين إلى حالة من فقدان الشعور بإنسانيّته. لنخلص بعد هذه المشاهد الواقعية، إلى أن هذه ركيزة أساسيّة يقوم عليها أي نظام ديكتاتوريّ استبداديّ، ومن يمارسون التعذيب باسم القائد الأوحد والمفدّى.

لا يمكننا الجزمُ بأنّ “قوقعتنا” أخفّ وطأة من “قوقعتهم”، وقد تكون حفلاتُ التعذيب والقتل في ليبيا، أقلّ انتشارا وشهرة مما ذَكر (الإخواني/المسيحي) مصطفى خليفة، وإنْ بإمكاننا، بعدما رأينا ما حدث لـ”عبد السلام خشيبة”، أن نتخيّل فقط ما حدث لمنصور الكيخيا، أو عمر المحيشي، أو آدم الحواز، أو عامر الدغيس، أو كثيرين غيرهم، لأنّ القائمة تطول بألمٍ لا حدّ له… والأهم هو أننا بعدَ أن ظننّا أنّنا تخلصنا من الجور والاستبداد، فإنّنا لا نعرفُ، وإن بإمكاننا “التخيّل”، ما يجري الآن في السجون غير القانونية، وغير الإنسانية، المنتشرة في كل أنحاء بلدنا، من انتهاك لكرامة الإنسان الذي يُفترض أنّ الخالق قد كرّمه.

الخلاصةُ أننا الآن نعيش في سجنٍ افتراضي كبير بحجم وطن، نراقبُ هذه التراجيديا التي تتكشّف أمام أعيننا في كل يوم من رعب وحشي، و”هبال” مطلق، ولا يملك أغلبُنا إلّا الهرب إلى داخل قواقعنا المهترئة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى