اهم الاخباركتَـــــاب الموقع

قصة “مخطوف” إلى مالطا (ج1)

أحمد قوداب

اختطاف يكسر الملل

دخلتُ مالطا ببطاقتي الشخصية… كانت هذه العبارة أول ما تبادر لذهني عند سماعي أن الطائرة التي أسْتقلُها خُطِفتْ إلى مالطا ذاتها، تزاحمت في ذهني الأفكار والسيناريوهات، ولكن اغلبها كان مشوقا، لعلّ ذلك كان بسبب رتابة الحياة التي أعيشها، فأنا طبيب أسنان وتتمحور حياتي كلها حول هذا الشيء، لا أملك أن أغير الكثير فيها، فتسير أيامي جميعا تقريبا بنفس التفاصيل والمراحل.

كنتُ أحد ركاب الطائرة التي كانت ستتوجه من مطار تمنهنت إلى معيتيقة أواخر ديسمبر عام 2016، كان كل شيء عاديا وغير ملفت للانتباه، نفس التفاصيل والحركات والكلمات والهموم وساعات الانتظار، نفس الازدحام والتسابق غلى الطائرة، كنتُ غير مهتم بكل ذلك، فقد كان ذهني مشغولا بالمؤتمر العلمي الذي انتوي المشاركة في فعالياته بمدينة بنغازي.

للحظات أغمضتُ عينيْ وتذكرتُ جلسة جمعتني بجاري سليمان، الذي كان على متن طائرة ليبية اُخْتُطِفتْ إلى مالطا عام 1983، غبطته على ذاكرته القوية التي لم ينس فيها تلك التفاصيل الدقيقة لرحلته المشابهة لرحلتي الآن.

عودة في الذاكرة

يقول سليمان وهو رجل خمسيني أسمر البشرة دائم التبسم كثير الحركات، لم أحلم يوما أن أسافر خارج ليبيا، ولم يدر هذا الأمر ببالي وأنا أصعد الطائرة من مطار سبها الدولي، كنت وصديقي صبييْن في الرابعة عشر من عمرنا، كنا لا نتوقف عن مشاهدة كل شيء في الطائرة، كما كانت أعيننا تتفحص الركاب وكيف يستعدون للجلوس في مقاعدهم، لم يكن الأمر عاديا بالنسبة لصغار مثلنا، فقد كانت المرة الأولى التي نستقل فيها الطائرة، جلسنا وأقلعت الطائرة وبدأت المضيفات في تقديم الوجبات، لم تلبث المضيفة أن تبدأ بعملها حتى اقتحم رجل مقصورة القيادة بشكل غريب، بعد دقائق أعلن الكابتن أن الطائرة مختطفة!

إعلان الاختطاف لحقه طلب الكابتن من الركاب بالتزام الهدوء، وإخبارهم بأن الطائرة ستتجه إلى مالطا، بعد لحظات من الرعب والصدمة أصابني فرح شديد قلت “حصّلنا فرصة وبندهوروا”، منذ تلك اللحظة أحسست بأن الرحلة اكتسبت طعما جديدا سيجعلها أكثر تشويقا، وبدأت أمعن النظر في ركاب الطائرة وأهتم بردود أفعالهم وقصصهم.

سجناء وعروس

في الخلف كان هناك ثلاثة سجناء جلبوا من سبها بنية سجنهم في بنغازي، كنت أنظر إليهم من بداية الرحلة بفضول، وأنا أرى أيديهم مكبلة ومعهم رجال امن تعتلي وجوههم الحيرة، قبل أن يأتي أحد الخاطفين ليسحب أسلحتهم الشخصية، والتي سلموها بسهولة دونما مقاومة.

لفت انتباهي تلك العروس المتزينة بفستان زفاف أبيض، كان من المفترض أن عريسها ينتظرها في مطار بنغازي، رأيتها حزينة وهي في كامل زينتها، كانت تندب حظها بصوت تظن أنه خافت ولكنه يسمع في كل أرجاء الطائرة، حتى فسدت مساحيق التجميل على وجهها، حولها ثلاث نسوة يحاولن تهدئتها ولكن لا فائدة، كانت رائحة التنور الساخن الذي تحمله رفيقات العروس تخترق أنوف الركاب، ضحك صديقي في هذه اللحظات وقال ” بخت هالاشكل ح يبات بروحه هالليلة”.

وأنا أتمعن في مشهد العروس بدأت الطائرة تهبط وترتفع بشكل متكرر، ما أثار موجة جديدة من الهلع بين الركاب داخلها، سمعت المضيفة تخبر أحد الركاب أن الخاطفين كانوا يريدون النزول في قبرص أو تركيا أو اليونان بدل مالطا، ولكن كابتن الطائرة اخبرهم بأن وقودها لا يكفي للذهاب إلى هناك، علمتُ بعد ذلك أن السلطات المالطية وافقت على هبوط الطائرة فوق أراضيها، فور هبوطنا كنت أشاهد من النافذة الجيش والأمن المالطي وهو يطوق المنطقة المحيطة بالطائرة، في حين جدد الخاطفون تهديدهم بتفجير الطائرة في حال وقع اقتراب أحد منها دون إذن.

معاناة ومأساة

بعد هذا الهبوط بدأت القضية تأخذ منحى مأساوي، فقد بقينا داخل الطائرة بلا طعام أو شرب، وأخذ الأطفال يبكون من الجوع، والعجائز يتألمن من طول الجلوس، كانت معنا امراة مريضة نفسيا ولم يكن معها الدواء؛ فبدأت تصرخ بصوت عال أبكى ولدها الذي لا يعرف ما الذي يفعله، وشرع يشرح للناس أن والدته مريضة، في الجوار رجل مسن أرهقه الجوع والعطش حتى كاد أن يهلك، قبل أن تحدثه إحدى الراكبات وتطلب منه أن يحكي عن أسرته ولما هو هنا، فبدأ يروي قصته بصوت خافت لم نكد نسمعه.

في هذه الأثناء كان طاقم الطائرة يفاوض السلطات المالطية لتقديم المعونة للركاب، كانت المضيفة تمر بين المقاعد ومعها قارورة ماء ولكننا لا نشرب من أجل أن يصل الماء للأطفال، نسينا أننا صغار أيضا يقول سليمان.

مر اليوم الثالث ونحن في الطائرة ومصيرنا فيها مجهول، وضع الرجل المسن يزداد سوءا، والعروس أصبحت كالغولة بعد أن فقدت بهاءها وجمالها، وزاد سوءا حال المرأة المريضة وانهار ابنها وهو يحتضنها باكيا، صارت أصوات الأطفال أكثر حدة وهم يبكون، واختلطت دموعهم بدموع أمهاتهم، عندها سمحت مالطا بأن تخرج المضيفة لتحمل الغذاء والماء للطائرة، تقدمت عند باب الطائرة مع بعض الشباب لنساعدها على النزول، وكانت أرجلها تتدلى في الهواء قبل أن تصل إلى الأرض ولكنها لم تعد.

يتبع

زر الذهاب إلى الأعلى