مقالات مختارة

قبل أن تصبح ليبيا نسياً منسياً

جمال الكشكي

لا أعرف لماذا تذكرت أسطورة سيزيف، وأنا أتابع القضية الليبية، فكلما تقدمت الأوضاع خطوة عادت إلى المربع الأول. ليبيا في مفترق طرق، تداخلت الأوراق، هناك من يريد أن تظل ليبيا «الساحة»، وليست ليبيا «الدولة»، المستقبل في عهدة الاستقرار، التفاعلات أسيرة لقدر الجغرافيا، الليبيون محملون بفواتير التاريخ الباهظة، سباق التأزيم بلغ مداه، استعادة الدولة تحتاج إرادة حديدية من السهل تسميتها بالمعجزة؛ لكن ليست مستحيلة، تقديم التنازلات وإنكار الذات بات معبراً إلزامياً لكل من يريد استعادة ليبيا الوطنية.

استمرار الخلافات حول شكل الحكومة الجديدة، أمر قد يقود إلى منعطف يضاعف تعقيدات الأوضاع. الأمل معقود على حكومة تسهيل، وليس على حكومة تعطيل. ليبيا لا تمتلك مناعة انخفاض مزيد من الأكسجين السياسي. الأزمة الليبية لا ينقصها التشخيص أو أدوية، ولكن تحتاج إلى إخلاص وإرادة، والتزام الطبيب المعالج. صرف العلاج في التوقيت المناسب لكل مرحلة، يضمن درجات التعافي. التحركات الوطنية لا تتفق مع الامتدادات الطرفية لبعض العناصر التي تتلقى الأوامر نيابة عن قوى لها مصالح وأطماع.

المسار الذي تحدثت عنه لجنة خريطة الطريق، يقول إنه بحاجة إلى 345 يوماً لإنهائه، أي حوالى 12 شهراً، وفي حال رفض الليبيين مشروع تعديل الدستور، فإن المرحلة الانتقالية ستصل إلى سنة و4 أشهر، أي 16 شهراً.
قراءة دروس الماضي صارت إجبارية للالتحاق بالمستقبل.

أغلق العام المنصرم أبوابه على مؤشر الخسارة لجميع الأطراف. مضى يوم الرابع والعشرين من ديسمبر (كانون الأول) من دون إجراء الانتخابات. خابت التوقعات. البلد الغني بثرواته يقف حائراً رهن إرادات داخلية وأخرى خارجية. المفاوضات تبخرت، صقيع الشتاء جمَّد «برلين 1» و«برلين 2»، الغيوم السياسية حجبت الرؤية أمام مخرجات باريس، نتائج مسيرة الجولات الماضية للمفاوضات والمباحثات والحوارات لم تبرح مكانها، كل الأطراف تتمسك بمواقفها السياسية وحساباتها القديمة، خلافات مستمرة حول إتمام مراحل خريطة الطريق، عدم توحيد المؤسسة العسكرية، استمرار انشطار البنك المركزي، عوائد النفط تسيل لعاب الطامعين والطامحين. التنظيمات الإرهابية تواصل تمددها.

رائحة الدم تعود مجدداً من الجنوب الليبي ببصمات داعشية، الخلاف بين المكونات الليبية هو الذي منح الفرصة للميليشيات والمرتزقة والقوات الأجنبية للقفز بقوة، مخاوف كبيرة من انتشار التمدد الداعشي، سيولة سياسية تفضي إلى سيناريوهات مفتوحة، التنبؤ بعواقبها أمر ليس سهلاً لدى الخبراء ومجالس التفكير، التجارب مع المتغيرات الليبية تقول إن المعطيات على الأرض لا تقود بالضرورة إلى النتائج المأمولة. الخروج من المراحل الانتقالية، مهمة صعبة يكشفها اختبار التعديلات الدستورية المطروحة، مجلس الأمن لم يستطع إخفاء صراعات النفوذ على طاولة التمديد لمهام ستيفاني ويليامز المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة. ليبيا ورقة مهمة في معادلات اللعبة الأممية الجديدة، رائحة النووي أضحت عابرة للحدود، العالم لم يستبعد اندلاع حرب عالمية جديدة، واشنطن تقف على خط المواجهة، «الناتو» صاحب البصمة الأشهر في ليبيا، يُظهر العين الحمراء للكرملين الذي يحلم باستدعاء الإمبراطورية السوفياتية. الورقة الليبية ليست بعيدة عن حسابات هذه القوى المتصادمة.

وسط هذه المتغيرات الدراماتيكية السريعة والمتلاحقة التي تمر بها ليبيا، فإن التحرك بالأوضاع خطوات إلى الأمام، مهمة عاجلة تنطلق من مرتكزات، يأتي في مقدمتها:
أن يشعر المجتمع الدولي أولاً برغبة حقيقية، وإرادة وطنية صادقة من قِبَل الليبيين أنفسهم، يترتب عليها قيام مؤسساته الدولية بالدور المنوط بها، للحد من حجم الصراعات والتجاذبات في ليبيا. كما أنه على الدول التي أرسلت قوات إلى ليبيا سحب قواتها احتراماً لإرادة شعبها، لا سيما القوات المتمثلة في المرتزقة والميليشيات، والمجموعات المسلحة الجوالة المأجورة، وضرورة الإيمان الكامل بأن صناديق الاقتراع هي المسار الرئيسي لحل أزمة الشرعية في ليبيا، على أن يسبقها النظر بقوة واهتمام إلى مشروع المصالحة الوطنية، وإعلاء قيمة المصالح العليا على الخلافات والصراعات الشخصية، وذلك لا بد أن يتم بالتوازي مع تضافر الجهود، من أجل دعم مسار أمني قوي وقادر على توحيد المؤسسات الأمنية والعسكرية، بما يفضي إلى إجراء انتخابات وسط أجواء يشعر فيها الليبيون بالطمأنينة.

الأمر المهم والذي يشكل عنصر ضغط أيضاً، هو ضرورة الانتباه إلى وضع خطة منظمة لتأمين الغذاء والدواء والكهرباء، ومجابهة الوضع الوبائي ضمن الأولويات القصوى للحكومة الجديدة، حتى يصل الملف الليبي إلى محطته الآمنة، وهذا من شأنه إغلاق المنافذ أمام تنظيم «داعش» ورفاقه من التنظيمات الإرهابية، لمنعها من التسلل والتمدد داخل المجتمع الليبي، لا سيما أن هذه التنظيمات تنشط دائماً في الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها المجتمعات، وتستغلها في توسيع دائرة التجنيد، وتأليب الرأي العام ضد حكوماته، عبر إيهامها للمواطن بأنَّها تقوم بالدور البديل للدولة، ولدينا نماذج وتجارب في عواصم عربية عديدة.

كل هذه المرتكزات التي طرحناها ليس مستحيلاً التفاعل والتعاطي معها؛ لكن البديل أو الابتعاد عنها يمثل موافقة ضمنية على استمرار ليبيا في البقاء داخل المراحل الانتقالية التي بدأت منذ عام 2011، ومن ثم فإن هذا البديل قد يصطحب معه القضية الليبية، وتصبح نسياً منسياً.

المصدر
الشرق الاوسط
زر الذهاب إلى الأعلى