مقالات مختارة

عن العنف … و «كسر الصمت»

فاتن الدجاني

ثمة تقاليد عابرة للإدارات الأميركية منذ مؤتمر مدريد للسلام. جميعها يريد أن يضع نهاية للنزاع العربي – الإسرائيلي، وأن يسجل هذا الإنجاز باسمه، وإن كان لا يلقى سوى الفشل المدوّي في النهاية. هكذا كانت الحال في زمن الرؤساء جورج بوش الأب، وبيل كلينتون، وبوش الابن، وباراك أوباما، ولا يبدو أن إدارة دونالد ترامب ستشذ عن هذه القاعدة، فالعبرة بالبداية غير الموفقة حتى الآن، إذ تمارس واشنطن الضغط على الجانب الفلسطيني لتقديم بوادر حسن نية من جانب واحد، من دون أن تنجح في تحصيل ولو بادرة إسرائيلية واحدة، من قبيل وقف الاستيطان، أو الانسحاب قيد أنملة من الضفة الغربية، أو حتى تقديم تسهيلات اقتصادية للفلسطينيين.

كل هذا ليس بالجديد، بل متوقع، لكن المستغرَب هو أن يطرح موفدو ترامب الى السلطة الفلسطينية مطلبَ وقف العنف والتحريض. فإما أنه الجهل المطبق بمواقف الرئيس محمود عباس، الذي أعلن مراراً، حتى قبل أن يصبح رئيساً، أنه ضد العنف والكفاح المسلح، أو أنه سوء النية المبيت والانحياز المطلق الى إسرائيل حين يصبح العنفُ عملياتِ طعن محدودة، وفاشلة في معظم الأحيان، يقوم بها فتية ينتهي بهم الأمر الى الموت أو الإصابة برصاص الجيش الإسرائيلي.

هذه المرة لن نسأل «عنفُ من»، فما من عنف أفظع من الاحتلال نفسه. ولن نتطرق الى معنى العنف والمقاومة عند فرانز فانون وجان بول سارتر وحنة آرنت وسيمون دو بوفوار وكثيرين قبلهم وبعدهم، ولا الى اختلال ميزان القوى والانحياز الفاضح لإسرائيل والمطالب التعجيزية التي لا تنتهي. ولن نُذكّر بالإشراف الأميركي على الأمن الفلسطيني وأجهزته، والتنسيق والتعاون الأمني للسلطة الفلسطينية مع إسرائيل، اللذين يحيلان مطلب وقف العنف الى نكتة!

هذه المرة، سنستشهد بكتابٍ نزل حديثاً الى الأسواق يشرّح الاحتلال الإسرائيلي بعيون 26 روائياً وكاتباً عالمياً، بينهم حائزا جائزة «بوليتزر» مايكل تشابون وجيرالدين بروكز، والروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا حائز جائزة «نوبل» للآداب، والكاتب الإيرلندي كولم تويبن، والروائية الأميركية من أصل يهودي أيليت والدمان، وهم زاروا الأراضي الفلسطينية المحتلة العام الماضي حيث عاينوا الوضع من قرب.

«مملكة الزيتون والرماد – كتّاب يواجهون الاحتلال» هو ثمرة هذه الزيارة. شهادة جماعية تنقل الى العالم صورة الكفاح اليومي الفلسطيني في وجه العنف اليومي الناجم عن الاحتلال. ولأن الكتاب يصدر في مناسبة الذكرى الخمسين لحرب عام 1967، فإنه يتحدث عن تبعات احتلال عمره ٥٠ عاماً على حياة شعب آخر من خلال نظام الفصل العنصري والسيطرة العسكرية عبر التصاريح والحواجز ونقاط التفتيش والمستوطنات والمحاكم العسكرية، وغيرها.

وراء هذه الزيارة منظمة «كسر الصمت» الإسرائيلية التي ترفع شعار إنهاء العنف من خلال إنهاء الاحتلال. شعار محق أفرزته تجربة مؤسسيها، وهم جنود مسرّحون من الجيش خدموا في الأراضي المحتلة ونفذوا أوامر الجيش وسياساته، واعتدوا على فلسطينيين، ثم صحت ضمائرهم أو أرّقهم مدى الانحطاط الأخلاقي للجيش وجرائم المستوطنين التي أحالت حياة الفلسطينيين الى جحيم تحت ذريعة الأمن. بهذا المعنى، يندرج نشاط المنظمة ضمن موجة «ما بعد الصهيونية» والمؤرخين الجدد وعلماء الاجتماع والفنانين والصحافيين الذين تحدوا أساسيات الرواية الصهيونية إما بحثاً عن التطهر أو قلقاً على مستقبل الدولة العبرية.

واليوم، يُنظر الى «كسر الصمت» على أنها الصوت العالي الذي يُعكر مزاج اليمين الحاكم في اسرائيل، بدليل الحملة الكبيرة ضدها ومحاولات تجفيف مصادر تمويلها، الأوروبية والأميركية أساساً، عبر مجموعة من التشريعات وملاحقة القائمين عليها. وهذا لا يعني التقليل من المآخذ على المنظمة، وأهمها أنها لا ترفض الخدمة العسكرية، بل يقتصر اعتراضها على الاستخدام المنهجي للعنف، إذ ترى أن الجيش ليس أداة للقهر والاحتلال، وأن استخدامه بهذه الصورة يدمر سمعته والمجتمع الإسرائيلي نفسه.

رغم ذلك، فالإفادات التي تجمعها منظمة «كسر الصمت»، وهذا الكتاب الذي وضعته نخبة وازنة، قد تكون أفضل شهادة تُقدم الى الإدارة الأميركية في موضوع العنف وحقيقته وجذوره، على الأقل من باب «شهد شاهد من أهله».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صحيفة “الحياة” اللندنية

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى