مقالات مختارة

عندما اقتلع المتطرفون تمثال “الغزالة”

جمعة بوكليب

في بداية شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2014، استيقظ سكان مدينة طرابلس فوجدوا أن امرأة الغزالة اختفت. ولم يكن صعباً تحديد الجهة التي قامت بذلك، في وقت اكتسحت المدينة فيه موجة من غلوّ وتطرف ديني غير معهود في تاريخها، تقوده جماعات مسلحة تمكنت من الاستحواذ على العاصمة كرهينة، بعد ما صار يعرف بعملية «فجر ليبيا»، بقيادات سلفية وجهادية متشددة دينياً ومناوئة لكل ما كان يميز طرابلس من وسطية دينية وتسامح وانفتاح حضاري.

قبل ذلك، في سبعينات القرن الماضي، ولتلافي مشكلة ازدحام الطرق بالسيارات، عهد نظام القذافي إلى شركة يابانية بمشروع توسعة الطرق، وإنشاء طريق سريع لتخفيف الضغط المروري على وسط المدينة. فقامت الشركة بردم البحر مسافة كبيرة، حتى لم يعد مجاوراً للحديقة وحسناء الغزالة. وبقي الكورنيش، الذي بناه الطليان، بلا بحر. لكن تمثال حسناء الغزالة ظل في مكانه، ومستودعاً لما تُركتْ في عهدته طفولتُنا من براءة، ومَعْلماً جمالياً، وتاريخياً لمدينة لم يكن واضحاً لنا أنها ستغرق في عتمة القادم من الأعوام.

لولا وجود حديقة الغزالة، لما كان أطفال المدينة القديمة في طرابلس، من مواليد جيل الاستقلال، عرفوا معنى كلمة حديقة أو رأوا ولعبوا في واحدة. كان الله تعالى، في عليائه، يحرسنا بعيون رعايته. وكنّا ننامُ ونصحو بين جدران تلتهم طفولتنا، نهاراً وليلاً، كل فصول العام. وكنّا، في الوقت نفسه، مشغولين عنها بابتلاع الأزقّة والحواري، بحفظ تفاصيلها، ومنحنياتها، وتعرجاتها. نخوضها بأقدام حافية، وبأجساد نحيلة، شبه عارية، وبطون جائعة، وبأعينٍ مسكونة بالدهشة والأسئلة، مستغرقين في اكتشاف، واستيعاب ما حولنا من حياة وما تحتوي من علاقات، وما تجمع من تناقضات وزخم بشري يعيش وجوداً مشتركاً يسوده الجهل والفقر والمرض.

الحديقة مساحتها كبيرة جداً، وكانت مجاورة لكورنيش البحر، ومنسّقة بشكل بديع. وتاريخياً، يقال إنها كانت جزءاً من قصر باشا عثماني، ثم جاء الاستعمار الإيطالي فحوّلها إلى حديقة عامة غنّاء بالورود وبهجة للناظرين. وظلت مرتعاً مباحاً لنا الاستمتاع باتساعه وخضرته، حين يتكرم آباؤنا بأخذنا إليها لزيارتها والركض فوق مساحات عشبها كجديان صغيرة في الأعياد والمناسبات الدينية فقط. وإلى جانب الحديقة وُجدت نافورة ماء على شكل إناء دائري تحتوي تمثالاً نحاسياً لامرأة عارية كأنها عروس بحر، تجلس على صخرة، تحتضن بيدها اليمنى غزالة، بينما تلامس باليسرى جرّة. قام بتصميمه نحات إيطالي مشهور اسمه أنجيلو فانيتي في مطلع ثلاثينات القرن الماضي. وكانت مياه النافورة تنبثق من عيون صغيرة تحيط بالتمثال، ترتفع عالياً ثم تنزل خيوطها على امرأة الغزالة كأنها تغتسل بمطر سحري. كان وجود تمثال نحاسي لامرأة عارية أمراً مثيراً لدهشتنا. وكنّا كثيراً ما نلتقط صوراً تذكارية بجانب التمثال أو على انفساح العشب، يلتقطها لنا مصورون محترفون بأسعار زهيدة.

في السنوات التي تلت الاستقلال، وصارت جزءاً من ماضٍ بعيد نسبياً، كانت المناهج الدراسية المصرية هي كل ما كان بإمكان المملكة الليبية المتحدة توفيره لأطفال ذلك الجيل الفقير والبائس، في مدارسهم، في بلد واسع، تغمره صحراء، ومستقلّ حديثاً، وليس له من الموارد إلا ما كان يقدَّم له من معونات دولية. تعلّمنا القراءة والكتابة، في كتب مدرسية مصرية، وازددنا ارتباكاً في عقولنا الصغيرة. لأن الواحد منّا اكتشف، في المدرسة، أنه يتعلم تهجِّي حروف أبجدية بلغة فصحى مختلفة عن لهجة الشارع. بعدها تأتي مشكلة أخرى هي أنه يدرس كتباً من بيئة متقدمة نسبياً. وعلى سبيل المثال، كنّا في كتاب المحفوظات، في الصف الثالث الابتدائي، نقرأ ونحفظ العديد من الأناشيد. منها واحد معنون باسم «البستاني». وكنا نحفظ النشيد ونردده بحيوية وإيقاع جميل، كأننا في فرقة كورال جماعي: «نراه في الصباح يعمل في انشراح بين الندى والزهر وتحت ظل الشجر». وصف جميل ومموسق لحركة رجل بستاني يعمل في حديقة متنقلاً في أنحائها بنشاط وحيوية، مقلّماً الأشجار والأغصان، وحوله الطيور تحطُّ أو تطيرُ.

الغريب أننا جميعاً لم نرَ بستانياً واحداً في حياتنا، وأن قاموسنا اللغوي والحياتي اليومي لا مكان فيه لمفردة بستاني. كما أن المفردة لا تحيل ذاكراتنا إلا إلى شبح مضبب، وتزيدنا حيرة وارتباكاً. ولم تكن في كل أحياء المدينة القديمة حديقة واحدة، أو بستاني واحد. ولولا الاستعمار الفاشيّ الإيطالي، لما كان في طرابلس حديقة واحدة عامة تسمى حديقة الغزالة يزين ميدانها تمثال نحاسي لحسناء وغزالة من إبداع نحات مشهور عالمياً، ولولاهم ما عرفنا في طفولتنا معنى كلمة حديقة، ولا كنّا رأينا، أو لعبنا في واحدة.

نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى