اخترنا لككتَـــــاب الموقع

“ضمير مستتر تقديره : ظالم”

أنيس فوزي

لا يُمكن أن يُصدّق عاقل أن بلادا بها قتلة ومجرمون ومتطرفون يتنزهون في الشوارع ولديهم سجون سرية وعلنية ومنابر رسمية دينية وحكومية تحرّض على العنف بل ولا تجد حرجًا في اختطاف أي مواطن وبأي تُهمة مهما بلغت من الغباء والسطحية، إضافةً إلى عدم قانونيّتها.

لا يمكن التصديق أن هذه البلاد نفسها، تستدعي النيابة العامة فيها فنانين وكتاب ومدراء مدارس ومنظمي احتفالات و”مغردين” على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب زعزعة الأمن ومناصرة الخوارج واختراق العادات والتقاليد وإلخ. وهذا – بالطبع- ليس إسفافا وانحطاطا وحسب، بل كما تقول العبارة الليبية “صحّة وجه”.

فلا يُمكن أن تُقنع حتى أكثر الناس غباءً وأقلّهم استيعابًا أنَّ هذا تصرف دولة تدَّعي محاربة الإرهاب، وأن لها جيشا ومؤسسات، فضلاً عن كونها تُطالب بالحصول على الشرعية الدولية، بل وتطالب بانتهاء حظر السلاح عليها، أيْ أنها تريد فوق سلاحها الذي يكفي لاحتلال دولة جارة، سلاحًا آخر!!

مازلت أضع نفسي في مكان شاب ليبي بعد نصف قرن من الآن، يقلّب صفحات التاريخ ويرى تعليقات ومنشورات آبائه وأجداده محفوظة في مستندات إلكترونية، ويشاهد بالصوت والصورة هيجان المجتمع ضد “فنان ومديرة مدرسة” بسبب حفل تخرج لطالبات الثانوي، حضره أولياء أمورهن، وغنّى فيه آخرون كتهمة وجريمة كبيرة، بينما لن يجد حديثًا عن شارع الزيت الذي تُرمى فيه الجُثث ليل نهار، ولا حديث عن أبناء القادة الذين يتمتعون في فنادق عواصم العالم ويحكمون ويأمرون كأبناء السوء الذين سبقوهم، والذين يشبهونهم.

إن المرارة والحسرة، تكمن في أننا كلّنا نعرف مَن هُم المجرمون وبأسمائهم وصفاتهم وتاريخهم وصورهم وأصواتهم، ونعرف أين هم وماذا فعلوا وكيف ولدينا ما يكفي من الأدلّة على ذلك، لكن جريمة الأستاذة إيمان بوسنينة أنها نظمت حفلة لطالباتها بمناسبة تخرّجهن، وجريمة وسيم عادل أن الطالبات رقصن على أنغام أغنية عن “النجاح” وما تحمله من ألفاظ تخدش حياء الجهلة و “الصياع” القُدامى، المهتدين الجُدد.

إن تضامني مع الأستاذة إيمان بوسنينة ووسيم عادل وغيرهم من القابعين في السجون والمشردين في المنافي، بمختلف التُهم -الغبية وغير القانوينة- لا يعني الدفاع عنهم -فهم ليسوا مجرمين ولا مذنبين أساسا- وإنما للتضامن مع نفسي، أهلي، أصدقائي وأبناء بلدي (مسبقًا) عندما يتعرضون لهذه الإهانة والتُهم الكيديّة لاحقًا.

وإنّ من يملك ضميرا انتقائيًا فقد آذى نفسه قبل أن يؤذي أحدا سواها، ومن لا يفرّق بين رأيه في الشخص وبين الموافقة على إذلاله والعبث بكرامته فهو شخص فاقد الأهليّة حتمًا، ولا يمكن اعتباره كائنا فاعلا أو تدبّ في عروقه الدماء، وإنّما جماد مثله مثل السلاح يُستخدم في تأدية أغراض الظلم والفظاعة. أما من يملك ضميرا عاديًا فلا يرضى الظلم حتى لأعدائه -إذا كانوا كذلك أصلا-، ولا يحارب خصومه بل يناظرهم، لكن الحجّة الضعيفة صوتها عالٍ، ولطالما امتلكت السلاح.

أيّها الراديكاليون الأغبياء، يا أعداء الجمال، لكم مشكلة مع كل شيء، مع المسرح والسينما والغناء والموسيقي والرقص والرياضة والتصوير والتفكير والبحث والتحليل والفلسفة والعِلم والمدينة والاختلاف والنساء والرجال والأطفال والشيوخ والحيوان والنبات والتكنولوجيا والتطور والفضاء والفلك والفيزياء والكيمياء والتاريخ والجغرافيا وحتى الدين نفسه لديكم معه مشكلة، فماذا تريدون منّا؟ وماذا تريدون من أنفسكم؟ (حلّوا عن سمانا) قبل أن يفقد الشعب صبره، ويفعل ذلك على طريقته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى