مقالات مختارة

شرق الفرات… منطقة متعددة المآزق والأطراف

دارين خليفة

تهديدات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بعملية عسكرية شرق الفرات ليست الأولى من نوعها، وعلى الأرجح لن تكون الأخيرة. فتضارب المصالح السياسية وشدة المخاوف الأمنية أوقعا معظم الأطراف في مآزق متعددة، مما يهدد بتقويض الاستقرار النسبي القائم منذ طرد تنظيم «داعش» من المنطقة.

نجحت الجهود الأميركية حتى الآن في إدخال أنقرة في مباحثات دبلوماسية بدلاً من اللجوء إلى تدخل عسكري سريع في شمال شرقي سوريا. لكن ليس من المتوقع أن تنجح جهودها في حماية «وحدات حماية الشعب» الكردية، شريكتها في الحرب ضد تنظيم «داعش» على المدى الطويل. أو في طمأنة هواجس تركيا حيال نفوذ «الوحدات» التي تراها تابعة لـ«حزب العمال الكردستاني»، المصنف تنظيماً إرهابياً من قبل تركيا. وترى تركيا كذلك أن الدعم الأميركي خلال الأعوام الأربعة الماضية ساهم بشكل مباشر في خلق دويلة شبه مستقلة تابعة لـ«حزب العمال» في مناطق من سوريا تجاور حدودها الجنوبية.
هذا الواقع دفع بواشنطن إلى مأزق متعدد الأبعاد؛ متمثل في أن: الرئيس الأميركي دونالد ترمب مصمم على الانسحاب من سوريا، في الوقت الذي لا يستطيع فيه التوفيق بين المطالب المتناقضة لحلفائه الأكراد والأتراك، إضافة إلى معارضته الشديدة عودة الدولة السورية وداعميها الإيرانيين إلى تلك المنطقة. هذا المأزق إنْ لم يحل في ظل الوجود الأميركي؛ فسيهدد بنزاع حاد بين هذه الأطراف بعد مغادرة القوات الأميركية، أو تصعيد تركي حتى في ظل الوجود الأميركي. ومن الوارد جداً انزلاق المنطقة إلى فوضى عارمة سوف تفتح الأبواب أمام عودة «داعش» إلى الواجهة، بعد أكثر من أربعة أعوام من الحملات الباهظة لاستئصاله.

جهود الولايات المتحدة لحل هذه المعادلة الصعبة حتى الآن تركز على محاولة إيجاد حل وسطي بين تركيا و«وحدات حماية الشعب» حول إدارة شريط حدودي وتأمينه. لكنها بالنتيجة كشفت عن أن الفجوة بين الطرفين لا تزال واسعة، وربما غير قابلة للردم. ففي حين تطالب أنقرة بالسيطرة الكاملة على شريط حدودي داخل سوريا لإنهاء هيمنة «وحدات حماية الشعب» على الشمال الشرقي وإبعاد هذه القوات عن حدودها، تطالب «الوحدات» بتأمين قوات دولية الشريط ذاته مع استبعاد فكرة أي وجود تركي فيه.

وقد لا يعني خطاب إردوغان وزيادة الانتشار العسكري التركي في المناطق الحدودية، وإرسال أسلحة ثقيلة بالقرب من بلدة تل أبيض في الأسابيع القليلة الماضية، أن أنقرة راغبة في شن عملية عسكرية موسعة في ظل وجود قوات أميركية في المنطقة؛ الأمر الذي من شأنه أن يؤثر سلباً على علاقاتها مع واشنطن المتوترة أصلاً. فمن الوارد أنها مناورة سياسية للتعبير عن الإحباط التركي، بسبب المفاوضات التي تراها بلا نهاية وغير مثمرة على حد سواء. ولكنها بالتأكيد تستطيع أن تشن حرب استنزاف تزيد التكلفة للحماية الأميركية للمنطقة، وتعقد الانسحاب الذي يطمح إليه ترمب، أو قد تفرض على الإدارة الأميركية مزيداً من التنازلات الحقيقية لإقناع أنقرة بالعودة إلى طاولة التفاوض مجدداً.

روسيا، من جانبها، هي أيضاً في مأزق، فيصعب التوفيق بين هدفها الأساسي، وهو إعادة تمكين نظام الأسد للسيطرة على كامل أراضي سوريا، ورغبتها في الحفاظ على علاقتها بالطرف التركي. فلا يوجد أفق لأي مصالحة بين أنقرة ودمشق من ناحية، ولا استعداد لأي مرونة تجاه مطالب الأكراد باللامركزية عند نظام البعث من ناحية ثانية. فترى دمشق أن الوقت لصالحها، وأن المنطقة سترجع لها عاجلاً أم آجلاً. لكن في الوقت نفسه، تبقى موارد سوريا من النفط والغاز والحبوب خارج متناول يدها. ولا يستبعد وقوع هذه الأراضي تحت السيطرة التركية، شأنها شأن عفرين وجرابلس والباب، أو أن تحول وضع الحكم الذاتي القائم حالياً إلى أمر واقع تصعب إزالته مع مرور الزمن.

وفي الحقيقة، إن الرهان على عامل الوقت لترسيخ وضعها التفاوضي هو أيضاً رهان «وحدات حماية الشعب»، ولكنهم في مأزق وجودي. فهم محاصرون من كل الجوانب، بما فيها من قبل «داعش»، الذي استردت بقاياه جزءاً لا بأس به من عافيتها. حوّل تنظيم «داعش» استراتيجيته، وبدأ بشن هجمات لتقويض الوضع الأمني في جزء كبير من شمال شرقي سوريا، مستهدفاً السكان العرب المتعاونين مع «وحدات حماية الشعب» بشكل أساسي. وهو ما يزيد من تخوف العشائر العربية من التعاون مع التحالف الدولي لمحاربة «داعش». في المقابل تواجه «وحدات حماية الشعب» حالياً تحدياً قد لا يكون ممكناً التغلب عليه؛ يتمثل في آلاف المحتجزين لديهم من مقاتلي تنظيم «داعش» السوريين؛ إضافة إلى المقاتلين الأجانب وعائلاتهم.

في هذا المآزق المتعددة الأطراف يبقى توجّه الولايات المتحدة العنصر الحاسم. إن بقاءها في سوريا ليس حلاً مستداماً؛ فهو يستند إلى أساس قانوني هشّ، ويقع تحت رحمة تحولات مواقف ترمب. فعلى واشنطن استخدام نفوذها لمعالجة الهواجس التركية بشأن دور «حزب العمال الكردستاني» في شمال شرقي سوريا، وأن تقوم في الوقت عينه بحماية شركائها السوريين ونزع فتيل الحرب في المنطقة.

كما على شريكها الكردي القيام بخطوات لا بد منها لتخفيف حدة التهديدات التركية، مثل تقليص هيمنته على المنطقة، وفصل إدارته عن كوادر «حزب العمال الكردستاني»، أو إيجاد تهدئة بين «حزب العمال» وتركيا. فلا يمكن لـ«وحدات حماية الشعب» أن تبقي على سيطرتها في سوريا، وعلى علاقتها مع «حزب العمال» في ظل أن الأخير مستمر في تمرده المسلح في تركيا. والحماية الأميركية «المؤقتة» هي فرصة ذهبية لهم لترتيب أولوياتهم السياسية والعسكرية. كما أن المرحلة التالية من الحرب ضد تنظيم «داعش» تتطلب قيام «وحدات حماية الشعب» بتفويض جزء من السلطة لشركاء محليين، يضطلعون بدور قيادي في فرض السيطرة والأمن في مناطقهم.

وفي الوقت نفسه، يجب ألا تقع الإدارة الأميركية فريسة لإغراء توظيف وجودها في سوريا في سياق حملتها على حليف الأسد؛ إيران. فإيجاد حلّ بين القامشلي ودمشق مهمة صعبة في الأصل، ولا تتحمل توريطها في لعبة جيوسياسية كبرى. ويجدر بواشنطن التعاون مع روسيا لإقناعها، ودمشق من خلالها، بأن الطريقة الأسرع والأوفر لعودة الدولة واسترداد الموارد والسيادة، هي القبول بلامركزية سياسية وإدارية تحافظ على وحدة الأراضي السورية.

المآزق المتعددة في شمال شرقي الفرات قابلة لحلول توفر لكل الأطراف جزءاً من مطالبها، ولكنها تتطلب تنازلات صعبة وربما مؤلمة من الكل أيضاً. أما البديل؛ فهو مزيد من الدمار والتهجير والخسائر؛ وهذه تهدد أهالي المنطقة من المدنيين بالدرجة الأولى.

المصدر
الشرق الأوسط
زر الذهاب إلى الأعلى